خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٣
قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
٦٤
قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
٦٥
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
٦٦
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تعرف بأفعاله وشؤونه حتى اتضحت وحدانيته وثبتت فردانيته، ذكرهم أحوالهم في إقرار توحيده وقت الشدائد والرجوع عن ذلك عند الإنجاء منها، فكانوا كمن طلب من شخص شيئاً وأكد له الميثاق على الشكر، فلما أحسن إليه بإعطائه سؤله نقض عهده وبالغ في الكفر، وذلك عندهم في غاية من القبائح لا توصف فقال: { قل } أي لهؤلاء الذين يدعون محاسن الأعمال { من ينجيكم } أي كثيراً وعظيماً { من ظلمات البر والبحر } أي حيث لا هداية لكم بنجم ولا جبل ولا غيرهما، أإو عبر بالظلمات عن الكروب التي بلغت شدتها إلى أن صاحبها يكون كأنه في أشد ظلام، فهو بحيث إنه لا يهتدي فيها إلى وجه حيلة بنوع وسيلة { تدعونه } أي على وجه الإخلاص له والتوحيد والإعراض عن كل شرك وشريك لزوال الحظوظ عند إحاطة الرعب واستيلائه على مجامع القلب، فلا يبقى إلا الفطرة السليمة؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: { تضرعاً } أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر، وحقيقته الخشوع { و } قوله: { خفية } أي تخفون في أنفسكم مثل ما تظهرون؛ قال شمر: يقال: ضرع له وهو ضارع بيّن الضراعة، وهؤلاء قوم ضرع، أي أذلاء، وهم ضرعة أي متضرعون، والتضرع إلى الله: التخشع إليه والتذلل، وإذا كان الرجل مختل الجسم قلت: إنه لضارع الجسم بيّن الضروع، وفي الذل بين الضراعة - انتهى.
ولما بين وصفهم وقت الدعاء، بين قولهم إذ ذاك فقال: { لئن أنجانا من هذه } فأكدوا وخصوا وبينوا غاية البيان { لنكونن من الشاكرين * } أي العريقين في الشكر؛ ولما كانوا مقرين بأن فاعل ذلك هو الله، ولكنهم يكفرون نعمته، عدوا منكرين فأمره بالجواب غير منتظر لجوابهم بقوله: { قل الله } أي الذي له جميع العظمة { ينجيكم منها } أي من تلك الشدة { ومن كل كرب } أي وقعتم فيه، وما أعظم موقع قولُه: { ثم أنتم } مع التزام الإخلاص في وقت الكرب ومع التزام الشكر { تشركون * } مشيراً إلى استبعاد نقضهم بأداة التراخي مع ما فيه من الجِناس لما كان ينبغي لهم من أنهم يشكرون.
ولما كانوا بإشراكهم كأنهم يظنون أن الشدة زالت عنهم زوالاً لا يعود، وكان اللائق بهم دوام التذلل إما وفاء وإما خوفاً، أخبرهم ترهيباً لهم من سطوته وتحذيراً من بالغ قدرته أن شدتهم تلك التي أذلتهم لم تزل في الحقيقة، فإن قدرة الملك عليها حالة الرخاء كقدرته عليها في وقتها سواء، فإنه خالق الحالتين وأسبابهما وما فيهما، ولكنهم عمي الأبصار أجلاف الطبائع فقال: { قل هو } أي وحده { القادر } ولم يصغه صيغة مبالغة لأنهم لم يكونوا ينكرون قدرته إنما كانوا يدعون المشاركة التي نفاها بالتخصيص، على أن التعريف يفيد به المبالغة { على أن يبعث } أي في أيّ وقت يريده { عليكم } أي في كل حالة { عذاباً من فوقكم } بإسقاط السماء قطعاً أو شيء منها كالحجارة التي حصب بها قوم لوط وأصحاب الفيل أو بتسليط أكابركم { أو من تحت أرجلكم } أي بالخسف أو إثارة الحيات أو غيرها من الأرض كما وقع لبعض من سلف، أو بتسليط سفلتكم وعبيدكم عليكم { أو يلبسكم } أي يخلط بينكم حال كونكم { شيعاً } أي متفرقين، كل شيعة على هوى، فيكون ذلك سبباً للسيف { ويذيق بعضكم } أي بعض تلك الشيع { بأس بعض } فيساوي في ذلك بين الحرم وغيره، ويصير التخطف بالنهب والغارات عاماً، وسوق هذا الكلام هكذا يفهم إيقاعه في وقت ما لناس ما، لأن كلام الملوك يصان عن أن لا يكون له صورة توجد وإن كان على سبيل الشرط ونحوه، فكيف بملك الملوك علام الغيوب! وللتدريب على مثل هذا الفهم في كلام الله تعالى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد. وقال: حسن غريب، وسيأتي لهذا مزيد بسط وتحقيق في قوله تعالى في الفرقان
{ { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } } [الفرقان: 10].
ولما كان هذا بياناً عظيماً، أشار إلى عظمه بقوله: { انظر } وعظمه تعظيماً آخر بالاستفهام فقال { كيف نصرف الآيات } أي أي نكررها موجهة في جميع الوجوه البديعة النافعة البليغة { لعلهم يفقهون * } أي ليكون حالهم حال من يرجى فهمه وانتفاعه به، كان هذا { و } الحال أنه { كذب به } أي هذا العذاب أو القرآن المشتمل على الوعد والوعيد والأسباب المبينة للخلق جميع ما ينفعهم ليلزموه وما يضرهم ليحذروه { قومك } أي الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسروا بسيادتك، فإن القبيلة إذا ساد أحدها عزت به، فإن عزه عزها وشرفه شرفها، ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة، وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبه مهما أمكنها فإن عاره لاحق بها، فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع، وزاد ذلك بقوله: { وهو } أي والحال أنه { الحق } أي الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله.
ولما كان الإنسان ربما حصل له اللوم بسبب قومه, كان صلى الله عليه وسلم في هذا المقام بمعرض أن يخاف عاقبة ذلك ويقول: فماذا أصنع بهم؟ فقال تعالى معلماً أنه ليس عليه بأس من تكذيبهم: { قل لست } وقدم الجار والمجرور للاهتمام به معبراً بالأداة الدالة على القهر والغلبة فقال: { عليكم بوكيل * } أي حفيظ ورقيب لأقهركم على الرد عما أنتم فيه.