خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ
١٠١
وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
١٠٢
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٠٣
-الأعراف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما انقضى ذلك على هذا الوجه الأعظم والنظم الأبلغ الأحكم، وكانت هذه القرى بحيث تعرفها العرب ويرونها، أشار إليهم حثّاً على الاعتبار بهم، ولما كان أهلها جديرين بالبعد عنهم والهرب منهم، عبر عنهم بأداة البعد فقال: { تلك القرى } أي محالّ القبائل الخمس، ويجوز أن يكون البعد لعظمة ما حصل لأهلها من العذاب، ويؤيده قوله مبيناً لحالها: { نقص عليك }.
ولما كان العاقل من يكفيه أدنى شيء، هوّل الأمر بأن أخبارها تفوت الحصر، وأن ما قص منها يكفي المعتبر، فقال: { من أنبائها } أي أخبارها العظيمة الهائلة المطابقة للواقع شيئاً بعد شيء كما يفعل من يتتبع الأثر، وأنث الضمير لأن لرؤية القرى أنفسها مدخلاً في معرفة أخبار أهلها.
ولما كان المقام مقام العجب من التكذيب بعد ذلك البيان، كان ربما تخيل متخيل أنهم لم يؤتوا بالبيان الشافي، فشهد الله تعالى للرسل عليهم السلام تصديقاً لمن قال مهم: قد جاءتكم بينة، بقوله: { ولقد } أي والحال أنه قد { جاءتهم } أي أهل القرى لأنهم المقصودون بالذات { رسلهم } أي الذين أرسلناهم إليهم { بالبينات فما } أي فلم يتسبب عن ذلك بسبب طبعنا على قلوبهم إلا أنهم ما { كانوا } موفقين { ليؤمنوا } أي عند مجيئها، وقد أكد منافاة حالهم الإيمان باللام والكون أتم تأكيد { بما } أي بالذي { كذبوا } أي به، وحذفها أدل على الزجر من مطلق التكذيب وأوفق لمقصود السورة.
ولما كان تكذبيهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجارّ فقال: { من قبل } أي قبل مجيء الرسل إليهم أو بتكذيبهم الواقع منهم للرسل فيما أتوا به عن الله من قبل الأخذ بغتة، أو من قبل مجيء الرسل بالآيات، فإنهم أول ما جاؤوهم فاجؤوهم بالتكذيب، فجوزوا على تكذيب الحق من غير نظر في دليل بالطبع على قلوبهم فأتوهم. بالمعجزات فأصروا على ذلك التكذيب ووقفوا لذلك الطبع مع حظوظهم، ومنعتهم شماختهم وشدة شكائمهم عن الإيمان لئلا يقال: إنهم خافوا أولا فيما وقع منهم من التكذيب فكانوا فيه على غير بصيرة، أو إنهم خافوا ثانياً ما قرعتهم به الرسل من الوعيد، فدخلوا جبناً فيما يعلمون بطلانه، فكان تزيين هذا لهم طبعاً على قلوبهم، فكأنه قيل: إن هذا العجب هل يقع في مثل ذلك أحد؟ فقيل:نعم، مثل ما طبعنا على قلوبهم حتى صارت مع الفهم لا تنتفع، فكأنها لا تفهم فكأنها لا تسمع { كذلك يطبع الله } أي الجامع لصفات الكبر ونعوت الجلال بما يجعل من الرين بما له من العظمة { على قلوب الكافرين* } أي كل من يغطي ما أعطاه الله من نور العقل بما تدعوه إليه نفسه من الهوى عريقاً في الاتصاف بذلك فيترك آيات الله.
ولما كان نقض العهد أفظع شيء ولا سيما عند العرب، قال عاطفاً على "فما كانوا": { وما وجدنا } أي في عالم الشهادة { لأكثرهم } أي الناس، وأكد الاستغراق فقال: { من عهد } طبق ما كان عندنا في عالم الغيب، وهذا إما إشارة إلى الميثاق يوم { ألست بربكم } إن كان ذلك على حقيقته، أو إلى ما يفعلون حال الشدائد من الإقلاع عن المعاصي والمعاهدة على الشكر
{ { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } [يونس: 22] أو إلى إقامة الحجج بإفاضة العقول ونصب الأدلة، فصار بنصبها وإيضاحها للعقول كأنه أخذ العهد على من عقل أنه يبذل الجهد في التأمل ولا يتجاوز ما أبداه له صحيح النظر { وإن } أي وإنا { وجدنا } أي علمنا في عالم الشهادة { أكثرهم لفاسقين* } أي خارجين عن دائرة العهد مارقين مما أوقفهم عند الحد عريقين في ذلك طبق ما كنا نعلمه منهم في عالم الغيب، وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم.
ولما انقضى بيان هذا الإجمال الخالع لقلوب الرجال، أتبعه الكشف عما كان بعد قصة شعيب عليه السلام من قصة صهره موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وهي كالدليل على آيات الإجمال كما كانت القصص الماضية كالدليل على ما في أول السورة من الإجمال، فإن قصة فرعون مشتملة على الأخذ بالبأساء والضراء، ثم الإنعام بالرخاء والسراء، ثم الأخذ بغتة بسبب شدة الوقوف مع الضلال بعد الكشف الشافي والبيان لما على قلوبهم من الطبع وما قادت إليه الحظوظ من الفسق، وكأنه فصلها عن القصص الماضية تنويهاً بذكرها وتنبيهاً على عليّ قدرها، لأن معجزات صاحبها من معجزات من كان قبله، وجهل من عالجهم كان أعظم وأفحش من جهل تلك الأمم، ولذلك عطفها بأداة البعد مع قرب زمنها من التي قبلها إشارة إلى بعد رتبتها بما فيها من العجائب وما اشتملت عليه من الرغائب والغرائب، ولذلك مد لها الميدان وأطلق في سياقها للجواد العنان فقال: { ثم بعثنا } أي على عظمتنا { من بعدهم } أي الرسل المذكورين والأمم المهلكين { موسى بآياتنا } أي التي يحق لها العظمة بإضافتها إلينا فثبت بها النبوة { إلى فرعون } هو علم جنس لملوك مصر ككسرى لملوك فارس وقيصر لملوك الروم، وكان اسم فرعون موسى عليه السلام قابوس، وقيل: الوليد بن مصعب ابن الريان { وملئه } أي عظماء قومه، وخصمهم لأنهم إذا أذعنوا أذعن من دونهم، فكأنهم المقصودون والإرسال إليهم إرسال إلى الكل.
ولما سببت لهم الظلم الظلم قال: { فظلموا } أي وقعوا في مثل الظلام حتى وضعوا الأشياء في غير مواضعها فوضعوا الإنكار موضع الإقرار { بها } أي بسبب رؤيتها خوفاً على رئاستهم ومملكتهم الفانية أن تخرج من أيديهم؛ ولما كان ذلك من أعجب العجب، وهو أن سبب العدل يكون سبب الظلم، وكان هذا الظلم أعظم الفساد، سبب عنه قوله معجباً: { فانظر } أي بعين البصيرة { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { المفسدين* } فلخص في هذه الآية على وجازتها جميع قصتهم على طولها، وقدم ذكر الآيات اهتماماً بها ولأنها الدليل على صحة دعوى البعث.