خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ
١٧٥
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
١٧٦
سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
١٧٧
مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
١٧٨
-الأعراف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان كأنه قيل تبيهاً على جلالة هذه الآيات: انظر كيف فصلنا هذه الآيات هذه التفاصيل الفائقة وأبرزناها في هذه الأساليب الرائقة، قال: { وكذلك } أي ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع { نفصل الآيات } أي كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجانبنا جهلاً لعدم الدليل { ولعلهم يرجعون* } أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن الضلال إلى ما تدعو إليه الهداة من الكمال عن قرب إن حصلت غفلة فواقعوه، وذلك من أدلة { { والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } [الأعراف: 58] و { { ما وجدنا لأكثرهم من عهد } [الأعراف: 102] و { سأصرف عن آياتي } [الأعراف: 146].
ولما ذكر لهم ما أخذ عليهم في كتابهم من الميثاق الخاص الذي انسلخوا منه، واتبعه الميثاق العام الذي قطع بع الأعذار، أتبعهما بيان ما يعرفونه من حال من انسلخ من الآيات، فأسقطه الله من ديوان السعداء، فأمره صلىالله عليه وسلم أن يتلو عليهم، لأنه - مع الوفاء بتبكيتهم - من أدلة نبوته الموجبة عليهم اتباعه، فذكره ما وقع له في نبذ العهد والانسلاخ من الميثاق بعد أن كان قد أعطى الآيات وأفرغ عليه من الروح فقال: { واتل } أي اقرأ شيئاً بعد شيء { عليهم } أي اليهود وسائر الكفار الخلق كلهم { نبأ الذي } وعظم ما أعطاه بمظهر العظمة ولفظ الإيتاء بعد ما عظم خبره بلفظ الإنباء فقال: { آتيناه }.
ولما كان تعالى قد أعطاه من إجابة الدعاء وصحة الرؤيا وغير ذلك مما شاء سبحانه أمراً عظيماً بحيث دله تعالى دلالة لا شك فيها، وكانت الآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة وإن كان بعضها أقوى من بعض، قال تعالى: { آياتنا } وهو بلعام من غير شك للسباق واللحاق، وقيل: وهو رجل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين فرشاه فتبع دينه فافتتن به الناس، وقيل: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم
" "آمن شعره وكفر قلبه" قاله عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم، وقيل:هو أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق، وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروه.
ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك، رهبهم ببيان أن الذي سبب له هذا الشقاء هو إيتاء الآيات فقال: { فانسلخ منها } أي فارقها بالكيلة كما تنسلخ الحية من قشرها، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه، فتمكن من الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن من أحد، فأشقاه الله، وهذا معنى { فأتبعه الشيطان } أي فأدركه مكره فصار قريناً له { فكان } أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان { من الغاوين* } أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم،وعبر في هذه القصة بقوله: { اتل } دون
{ وأسألهم عن } } [الأعراف: 163] نحو ما مضى في القرية، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم، فهو شرف لهم، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتلعثموه فلا تكون تلاوته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لما أنزل في شأنه واقعاً موقع ما لو أخبرهم به قبل، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم { { سيغفر لنا } [الأعراف: 169] بما هم قائلون به، فيكون من باب الإلزام، وكأنه قيل: أنتم قائلون بأن من أشرك لا يغفر له لتركه ما نصب له من الأدلة حتى إنكم لتقولون { { ليس علينا في الأميين سبيل } [آل عمران: 75] لذلك، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم به الميثاق العام؟ ما ذلك إلا مجرد هوى، فإن قلتم: الأمر في أصل التوحيد أعظم فلا يقاس عليه، قيل لكم؛ أليس المعبود قد حرم الجميع؟ وعلى التنزل فمن المسطور في كتابكم أمر بلعام وأنه ضل، وقد كان أعظم من أحباركم، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول، وكان سبب هلاكه - كما تعلمون - وخروجه من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته على ملك زمانه بأن يرسل النساء إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال، فقد بحتم كذبكم في قولكم { سيغفر لنا } وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا ما فعل به.
ولما كان هذا السياق موهماً لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان أن الشيطان له تأثير مستقل في الإغواء، نفى ذلك غيره على هذا المقام في مظهر العظمة فقال: { ولو شئنا } أي أن نرفعه بها على ما لنا من العظمة التي من دنا ساحتها بغير إذن محق { لرفعناه } أي في المنزلة رفعة دائمة { بها } أي الآيات حتى لا يزال عاملاً بها.
ولما علق الأمر بالمشيئة تنبيهاً على أنها هي السبب الحقيقي وإن ما لم يشأه سبحانه لا يكون، وكان التقدير: ولكنا لم نشأ ذلك وشئنا له الكفر فأخلدناه - إلى آخره، عبر عنه تعليماً للأدب في إسناد الخير إلى الله والشر إلى غيره وإن كان الكل خلقه حفظاً - لعقول الضعفاء من إيهام نقص أو إدخال لبس بقوله مسنداً نقصه إليه: { ولكنه أخلد } أي فعل فعل من أوقع الخلد - وهو الدوام - وأوجده { إلى الأرض } أي رمى بنفسه إلى الدنيا رمياً، تهالكاً على ما فيها من الملاذ الحيوانية والشهوات النفسانية { واتبع } أي اتباعاً شديداً { هواه } فأعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات مقدماً لداعي نفسه على داعي روحه، لأن القلب الذي هو نتيجتهما في عالم الأمر له وجهان: وجه إلى الروح العلوي الروحاني الذي هو الأب، وله الذكورة المناسبة للعلو؛ ووجه إلى النفس التي هي الروح الحيواني التي هي الأم ولها المناسبة للأرض بالأنوثة وبأن أصلها من التراب الذي له الرسوب بوضع الجبلة فالتقدير: فحط نفسه حطّاً عظيماً، لأنا لم نشأ رفعه بما أعطيناه من الآيات، وإنما جعلناه وبالاً عليه، فلا يغتر أحد بما أوتي من المعارف، وما حاز من المفاخر واللطائف، فإن العبرة بالخواتيم، ولنا بعد ذلك أن نفعل ما نشاء.
ولما كان هذا حاله، تسبب عنه أن قال تعالى: { فمثله } أي مع ما أوتي من العلم في اتباعه لمجرد هواه من غير دليل بعد الأمر بمخالفة الهوى { كمثل الكلب } أي في حال دوام اللهث.
ولما كان كأنه قيل: مثله في أيّ أحواله؟ قال: في كونه { إن تحمل عليه } أي لتضربه { يلهث أو تتركه يلهث } فإن أوجب لك الحمل عليه ظن أن لهثه لما حاول من ذلك التعب ردك عنه لهثه في الدعة، فتعلم حينئذ أنه ليس له سبب إلا اتباع الهوى، فتابع الهوى مثل الكلب كما بين، ومثال هذا المنسلخ الجاهل الذي لا يتصور أن يتبع غير الهوى، لأنه يتبع الهوى مع إيتاء الآيات فبعد الانسلاخ منها أولى، فقد وضح تشبيه مثله بمثل الكلب، لا تشبيه مثله بالكلب؛ وهذه القصة تدل على أن من كانت نعم الله في حقه أكثر، كان بعده عن الله إذا أعرض عنه أعظم وأكبر.
ولما تقرر المثلان، وكان كل منهما منطبقاً على حالة كل مكذب، كانت النتيجة قوله: { ذلك } أي كل من المثلين { مثل القوم } أي الأقوياء ما يحاولونه { الذين كذبوا بآياتنا } أي في أن تركهم لها إنما هو بمجرد الهوى، لأن لها من الظهور والعظمة بنسبتها إلينا ما لا يخفي على من له أدنى بصيرة { فاقصص القصص } أي فأخبر الإخبار العظيم الذي تتبعت به مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم، وهو مصدر قص الشيء - إذا تبع أثره واستقصى في ذلك { لعلهم يتفكرون* } أي ليكون حالهم حال من يرجى تفكره في هذه الآيات، فيعلمون أنه لا يأتي بمثلها من غير معلم من الناس إلا نبي فيردهم ذلك إلى الصواب حذراً من مثل حال هذا.
ولما ظهر بهذا أن مثل الكلب الذي اكتسب من ممثوله من السوء والقذارة ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى مثل المكذبين بالآيات، أنتج ذلك قوله تأكيداً لذمهم وزجرهم: { ساء مثلاً القوم } أي مثل القوم { الذين كذبوا بآياتنا } أي فلو لم يكن عليهم درك في فعلهم أن لا تنزل هذا المثل عليهم لكان أعظم زاجراً له أدنى مروءة، لأنهم نزلوا عما لمن يتبعها من العظمة إلى ما ظهر بهذا المثل من الخسة، فكيف وهم يضرون أنفسهم بذلك ولا يضرون إلا إياها، وذلك معنى قوله: { وأنفسهم } أي خاصة { كانوا يظلمون* } أي كان ذلك في طبعهم جبلة لهم، لا يقدر غير الله على تغييره.
ولما كان ذلك محل عجب ممن يميل عن المنهج بعد إيضاحه هذا الإيضاح الشافي، قال جواباً لمن كأنه قال: فما لهم لا يؤمنون؟ مفصلاً لقوله { ولو شئنا لرفعناه بها } [الأعراف:176]: { من يهد الله } أي يخلق الهداية في قلبه الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه { فهو المهتدي } أي لا غيره.
ولما كان في سياق الاستدلال على أن أكثر الخلق هالك بالفسق ونقض العهد، وحد { المهتدي } [الأعراف: 177] نظراً إلى لفظ { من } وجمع الضال نظراً إلى معناها فقال: { ومن يضلل فأولئك هم } أي البعداء البغضاء خاصة لا غيرهم { الخاسرون* } إذ لا فعل لغيره أصلاً، والآية من فذلكة ما مضى، وما أحسن ختمها بالخسران في وعظ من ترك الآخرة بإقباله على أرباح الدنيا وأعرضها الفانية،ثم تعقيبها بذرء جهنم الذين لا أخسر منهم.
ذكر قصة بلعام من التوراة - قال في السفر الرابع منها بعد أن ساق قتالهم لسيحون ملك الأمورانيين: وفرق المؤابيون من الشعب فرقاً شديداً لأنهم رأوه شعباً عظيماً، فاضطرب المؤابيون ورجفت قلوبهم خوفاً من بني إسرائيل، وقال ملك مؤاب لأشياخ مدين: اعلموا أن هذا الجمع يرتعي حرثنا، ولا يدع أحداً إلا أهلكه، ويرتعي كل من حولنا كما يرتعي الثور عشب الأرض، وكان ملك المؤابيين في ذلك الزمان بالاق بن صفور، فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور العراف المعبر للأحلام الذي كان ينزل على شاطىء النهر قريباً من أرض بني عمون ليدعوه إليه فيستعين به: أخبرك أنه قد خرج شعب من أرض مصر، فغشى وجه الأرض كلها، وقد نزلوا جبالنا، فأطلب إليك أن تأتي وتلعن هذا الشعب لأنه أقوى وأعز منا، لعلنا نقدر أن نحاربه ونهلكه عن جديد الأرض، لأني عارف أن الذي تباركه هو مبارك، والذي تلعنه هو ملعون، وانطلق أشياخ مؤاب وأشياخ مدين ومعهم هدايا وجوائز، فأتوا بلعام فقالوا له قول بالاق، فقال لهم: بيتوا هاهنا ليلتكم هذه فأخبركم بما يقول الرب، فأقام أشراف مؤاب عند بلعام، فأتى ملك الله بلعام وقال له: من القوم الذين أتوك؟ قال بلعام للملاك: بالاق بن صفور ملك مؤاب أرسل إلي وقال: قد خرج شعب من أرض مصر فملأ وجه الأرض، فأقبل إلينا حتى تلعنه، لعلي أقدر أن أجاهده وأهلكه، وقال الملاك لبلعام: لا تنطلق مع القوم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك، فقال بلعام بكرة لعظماء بالاق: انطلقوا إلى صاحبكم، لأن الرب لم يحب أن يدعني أنطلق معكم، ونهض عظماء مؤاب فأتوا بالاق وقالوا له: لم يهو بلعام إتيانك معنا، فعاد بالاق أيضاً فأرسل رسلاً أعظم وأكرم من الأولين، فأتوا بلعام وقالوا له: هكذا يقول بالاق بن صفور: لا تمتنع أن تأتيني لأني سأعظمك وأكرمك جداً، وما قلت لي من شيء فعلت، وأقبل إلينا لتلعن لي - هذا الشعب، فرد بلعام على رسل بالاق قائلاً: لو أن بالاق أعطاني ملء بيته ذهباً وفضة لم أقدر أن أتعدى قول ربي وإلهي، ولا أحيد عن قول صغير ولا كبير من أقواله، فعرجوا أنتم أيضاً عندنا ليلتكم هذه حتى أنظر ما يخبروني ملاك الله من أمركم، فنزل وحي الله على بلعام ليلاً، وقال له: إن كان هؤلاء القوم إنما أتوك ليدعوك فقم فانطلق معهم، ولكن إياك أن تعمل إلا ما أقول فنهض بلعام بكرة وأسرج أتانه وانطلق مع عظماء مؤاب، فقال ملاك الرب في الطريق ليكون له لدداً، فرأت الأتان ملاك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه في يده، فحادت عن الطريق وسارت في الحرث، فضربها بلعام ليردها إلى الطريق، فقام ملاك الرب في طريق ضيق بين كرمين فرأت الأتانة ملك الرب فزحمت الحائط وضغطت رجل بلعام في الحائط، فعاد يضربها أيضاً، ثم عاد ملاك الرب وقام في موضع ضيق حيث ليس لها موضع تحيد منه يمنة ولا يسره، فبصرت بملاك الرب وربضت تحت بلعام، فاشتد غضب بلعام وضرب الأتان بالعصا، وفتح الرب فم الأتان وقالت لبلعام: ما الذي صنعت بك حتى ضربتني ثلاث مرات؟ قال بلعام: لأنك زريت بي، ولو أنه كان في يدي سيف كنت قد قتلتك الآن، فقالت: ألست أتانتك التي تركبني منذ صباك إلى اليوم؟ هل صنعت مثل هذا الصنع قط؟ قال لها: لا وجلّى الرب عن بصر بلعام فرأى ملك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فجثا وخر على وجهه ساجداً، فقال له ملاك الرب: ما بالك ضربت أتانك ثلاث مرات أنا الذي خرجت لأكون لك لداداً، لأنك أخذت في طريق خلافاً لأمري، فلما رأتني الأتان حادت عني ثلاث مرات، ولو أنها لم تحد عني كنت قتلتك وأبقيت عليها، قال بلعام لملاك الرب: أسأت وأجرمت، لم أعلم أنك قائم بإزائي في الطريق، فالآن إن كان انطلاقي مما تكرهه رجعت، قال ملاك الرب لبلعام: انطلق مع القوم وإياك أن تفعل شيئاً إلا ما أقول لك! فانطلق بلعام، فسمع بالاق فخرج ليتلقاه وقال بالاق: لم تأتني؟ قال: قد أتيتك الآن، لعلك تظن أني أقدر أن أقول شيئاً إلا القول الذي يجريه اللهعلى لساني به أنطق، فلما كان الغد عمد بالاق إلى بلعام وأصعده إلى بيت بعل الصنم، فرأى من هناك أقاصي منازل شعب إسرائيل، وقال بلعام لبالاق: ابني لي هاهنا سبعة مذابح، وهيىء لي سبعة ثيران وسبعة كباش، وفعل بالاق كما قال له بلعام، ورفع بالاق الكباش والثيران على المذبح قرباناً، وقال بلعام لبالاق: قم هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا، لعل الرب يوحي إليّ ما أهواه، وأنا مظهر لك ما يوحي به، فانطلق فظهر الله وألهمه قولاً وقال له: انطلق إلى بالاق وقل له هذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه وجميع قواد مؤاب معه، ورفع بلعام صوته بأمثاله وقال:ساقني بالاق ملك المؤابيين من أرام التي في المشرق، وقال لي: أقبل حتى تلعن يعقوب وتهلك آل إسرائيل، فكيف ألعنه ولم يلعنه الله، وكيف أهلكه والرب لا يريد هلاكه، رأيته من رؤوس الجبال، ونظرت إليه من فوق الآكام وإذا هو شعب وحده لا يعد مع الشعوب، ومن يقدر يحصي جميع عدد يعقوب، أو من يقدر يحصي عدد ربع بني إسرائيل، تموت نفسي موتاً ويكون آخري إلى آخرهم، قال بالاق لبلعام: دعوتك لتلعن أعدائي فإذا أنت تباركهم وتدعوا لهم، فرد بلعام قائلاً: الذي يلهمني الرب ويجري على لساني إياه أحفظ، وبه أنطق: قال له بالاق: مر معي إلى موضع آخر لنراهم من هناك، وإنما أسوقك لترى آخرهم ولا تراهم أجمعين، وانطلق به إلى حقل الربية وأقامه على رأس الأكمة، وابتنى هناك سبعى مذابح، وقرب عليها الثيران والكباش، قال بلعام: قف هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا الآن، فانظر ما الذي يقال؟ وتجلى الرب على بلعام وأجرى على فيه قولاً وقال له: انطلق إلى بالاق فأخبره بهذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه ومعه أشراف مؤاب، فرفع بلعام صوته بأمثاله وقال؛ انهض بالاق واسمع قولي وأصغ لشهادتي يا ابن صفور! اعلم أن الله ليس مثل الرجل يحلف ويكذب؛ إذا قال الرب قولاً فعله، وكلامه دائم إلى الأبد، ساقني لأعود وأبرك، ولا أرد البركة ولا أخالف ما أمرت به، لست أرى في آل يعقوب إثماً ولا غدراً عند بني إسرائيل ولا ظلماً، لأن الله ربه معه الله الذي أخرجهم من مصر بعزة وعظمة قوية، ولست أرى في آل يعقوب طيرة، ولا حساب نجوم أو عراف بين بني إسرائيل، كيف أقول والشعب قائم مثل الضرغام لا يربض حتى يفترس فريسته ويشرب دم القتل، فقال بالاق لبلعام: أطلب أن لا تلعنه ولا تدعوا له، فرد بلعام على بالاق قائلاً: ألست قلت لك: إني إنما أنطق بما يقول لي الرب، فقال بالاق:انطلق بنا إلى موضع آخر، لعل الله يرضى بغير هذا فتلعنه لي هناك، فأصعده إلى رأس فغور الذي بإزاء إستيمون، فأمره بمثل ما تقدم من الذبح والقربان، فرأى بلعام أن الرب يحب أن يدعو لبني إسرائيل، ولم ينطلق كما كان ينطلق في كل وقت ليطلب الوحي، ولكن أقبل بوجهه إلى البرية ومد بصره، فرأى بني إسرائيل نزولاً قبائل قبائل فحل عليه روح الله، ورفع صوته بأمثاله وقال: قل يا بلعام بن بعور، قل أيها الرجل الذي أجلى عن بصره، قل أيها الذي سمع قول الله ورأى رؤيا الله وهو ملقى وعيناه مفتوحتان، ما أحسن منزلك يا يعقوب ومنازلك يا إسرائيل! وخيمك كالأدوية الجارية، ومثل الفراديس التي على شاطىء النهر، ومثل الجنى الذي ركزه الله، ومثل شجر الأرز على شاطى النهر يخرج رجل من بينه وذريته أكثر من الماء الكثير، ويعظم على الملك، وذلك بقوة الله الذي أخرجهم من أرض مصر بغير توقف رثماً، يأكل خيرات الشعوب أعدائه ويكسر عظامهم ويقطع ظهوهم، رتع وربض كالأسد ومثل شبل الليث، ومن يقدر أن يبعثه، يبارك مباركوك ويلعن لاعنوك، فاشتد غضب بالاق على بلعام وصفق بيديه متلهفاً وقال: دعوتك للعن أعدائي، فماذا أنت تباركهم وتدعو لهم ثلاث مرات، انصرف الآن إلى بلادك، قد كنت عزمت على إكرامك وإجازتك فإذا الرب قد أحرمك ذلك، فرد بلعام على بالاق قائلاً: قد كنت قلت لرسلك الذين أرسلتهم إليّ أنه لو وهب لي بالاق ملء بيته من ذهب وفضة لم أقدر أتعدى عن قول الرب، ولكن إنما انطق ما يلهمني الرب، فأنا أنطلق الآن إلى أرضي، فأسمع ما أشير عليك وأخبرك ما يصنع هذا الشعب بشعبك آخر الأيام، ثم رفع صوته بأمثاله وقال: قل يا بلعام بن بعور قل أيها الرجل المجلى عن بصره! قل أيها الذي سمع قول الله وعلم علم العلي ورأى رؤيا الله إذ هو ملقى وعيناه مفتوحتان! فإني رأيته وإذا ليس ظهوره الآن وإن كان متدانفاً، ونظرت في أمره وإذا ليس بقريب، يشرق نجم من آل يعقوب، ويقوم رئيس من بني إسرائيل، ويهلك جبابرة من مؤاب ويبيد جميع بني شيث، وتثير أدوم ميراثه، وساعير وراثة أعدائه يصير له، ويستفيد بنو إسرائيل قوة بقوته - ونحو ذلك من الكلام الذي فيه ما يكون سبباً لا نسلاخه من الآيات، لكن ذكر المفسرون أنه أشار عليه باختلاط نساء بلاده ببني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن منهم ليزنوا بهن فيحل بهم الرجز، فوقع بهم ذلك، وهو الصواب لأنه ستأتي الإشارة إليه في التوارة عند فتح مدين بقوله: لماذا أبقيتم على الإثاث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته - وسيأتي ذلك قريباً، وما فيه من ذكر الوحي فهو محمول على المنام أو غير ذلك مما يليق؛ ثم قال: وقام بلعام ورجع منصرفاً إلى بلاده وبالاق أيضاً رجع إلى بيته، وسكن بنو إسرائيل شاطيم، وبدأ الشعب أن يسفح مع بنات مؤاب، ودعون الشعب إلى ذبائح آلهتهم، وأكل الشعب - من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم، وكمل بنو إسرائيل لعبادة بعليون الصنم، فاشتد غضب الله على بني إسرائيل، فقال الرب لموسى اعمد إلى جميع بني إسرائيل فافضحهم، فقال موسى: يقتل كل رجل منكم كل من أخطأ وسجد لبعليون، وإذا رجل من بني إسرائيل قد أتى بجرأة أمام إخوته من غير أن يستحي، فدخل على امرأة مدينية وموسى وبنو إسرائيل يبكون في باب قبة الآمد، فرآه فنحاس بن اليعازر بن هارون الحبر فنهض من الجماعة غضباً لله وأخذ بيده رمحاً ودخل إلى بيت الذي كانا فيه فطعنهما بالرمح فقتلهما، فكف الموت الفاشي عن بني إسرائيل، وكان عدد الذين ماتوا في الموت البغتة أربعة وعشرين ألفاً، وكلم الرب موسى وقال له: فنحاس صرف غضبي عن بين إسرائيل وغار غيرة لله بينهم وطهر بني إسرائيل، وكان اسم القتيل الذي قتل مع المدينية زمري ابن سلو، وكان رئيساً في قبيلة شمعون، وكانت المرأة المدينية كزبى بنت صور، وكان أبوها - من رؤساء أهل مدين، وقال بعض المفسرين: أنه خرج رافعاً الحربة إلى السماء، قد اعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاس من كل ذبيحة القبة والذراع واللحي والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان بكراً لعيزار بن هارون. ثم كلم الرب موسى وقال له: ضيق على أهل مدين وأهلكهم كما ضيقوا عليكم ولحسوكم، ثم قال: ثم كلم الرب موسى وقال له: إني لمنتقم من المدينيين ما صنعوا بين بني إسرائيل، ثم تقتص إلى شعبك، ثم قال موسى للشعب: يتسلح منكم قوم للحرب لينتقموا للرب من المدينيين، وليكونوا اثنى عشر ألفاً، فانتخب موسى من بني إسرائيل ألفاً من كل سبط، اثنى عشر أبطالاً متسلحين وأرسلهم، وصير قائدهم فنحاس بن اليعازر الحبر ومعه أوعية القدس وقرون ينفخ بها، وتقووا على مدين كما أمر الرب موسى وقتلوا كل ذكر فيها وقتلو ملوك مدين مع القتلى، وقتل بلعام بن بعور معهم في الحرب، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وانتهبوا مواشيهم وسلبوا جميع دوابهم وأموالهم وأخربوا جميع قرى مساكنهم وأتو بما انتهبوه إلى موسى، وخرج موسى وجميع عظماء الجماعة فتلقوهم خارج العسكر، وغضب موسى على رؤساء الأحبار ورؤساء الألوف والمئين الذي أتوه من الحرب فقال لهم: لماذا أبقيتم على الإناث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته، وفتنوا وغدروا وتمردوا على الرب في أمر فغور - وفي نسخة السبعين: فإن هؤلاء كن شيئاً لبني إسرائيل لقوم بلعام أن يتباعدوا ويتهاونوا بكلمة الرب من أجل فغور - فواقعت السخطة جماعة الرب - وفي النسخة الأخرى: وتسلط الموت على جماعة الرب - بغتة، فاقتلوا الآن جميع الذكورة من الصبيان، وكل امرأة أدركت وعقلت وعرفت الرجال فاقتلوها، وأبقوا على جميع النساء اللواتي لم يعرفن الرجال وأما أنتم فانزلوا خارجاً عن العسكر سبعة أيام - إلى آخر ما مضى قريباً في الآصار.