خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤١
إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
٤٢
إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤٣
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٤٤
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ
٤٥
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٤٦
-الأنفال

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان التقدير: فإذا أعانكم مولاكم عليهم وغلبتموهم وغنمتم فيه فلا تنسبوا إلى أنفسكم فعلاً، بل اعلموا أنه هو الفاعل وحده لأن جميع الأفعال متلاشية بالنسبة إلى فعله فلا تتنازعوا في المغنم تنازع من أخذه بقوته وحازه بقدرته، عطف عليه قوله: { واعلموا } ابتداء بهذا الأمر إشارة إلى أن ما بعدها من المهمات ليبذلوا الجهد في تفريغ أذهانهم لوعيه وتنزيله منازله ورعيه { أنَّما } أي الذي { غنمتم } الغنيمة لغة: الفوز بالشيء، وشرعاً ما دخل في أيدي الملسمين من مال الكفار قهراً بالخيل والركاب، وزاد في التعميم حتى لأقل ما يمكن بقوله: { من شيء } أي حتى الخيط والمخيط فإنه كله له، لأنه الناصر وحده وإنما أنتم آلة لا قدرة لكم على مقاومة الأعداء لأنهم جميع أهل الأرض ولا نسبة لكم منهم في عدد ولا قوة أصلاً، فالجاري على منهاج العدل المتعارف عندكم أن يأخذه كله ولا يمكنكم من شيء منه كما كان فيمن قبلكم، يعزل فتنزل نار من السماء فتأكله، ولكنه سبحانه - علم ضعفكم فمنّ عليكم به ورضي منكم منه بالخمس فسماه لنفسه ورده عليكم، وهو معنى قوله: { فأن لله } أي الذي له كل شيء { خمسه }.
ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجلّ من أن يناله نفع أو ضر، كان من المعلوم أن ذكر اسمه سبحانه إنما هو للإعلام بأن إسلام هذا الخمس والتخلي عنه لا حظ للنفس فيه، وإنما هو لمحض الدين تقرباً إليه سبحانه، فذكر مصرفه بقوله: { وللرسول } أي يصرف إليه خمس هذا الخمس ما دام حياً ليصرفه في مصالح المسلمين،ويصرف بعده إلى القائم مقامه، يفعل فيه ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله { ولذي القربى } أي من الرسول، وهم الآل الذين تحرم عليهم الزكاة: بنو هاشم وبنو المطلب { واليتامى } أي لضعفهم { والمساكين } لعجزهم { وابن السبيل } أي المسافر لأن الأسفار مظنات الافتقار، فالحاصل أنه سبحانه لم يرزأكم من المغنم شيئاً، فاعرفوا فضله عليكم أولاً بالإنعام بالنصر، وثانياً بحل المغنم، وثالثاً بالإمكان من الأربعة الأخماس، ورابعاً برد الخمس الخامس فيكم، فاشتعلوا بشكره فضلاً عن أن تغفلوا عن ذلك فضلاً عن أن تتوهموا أن بكم فعلاً تستحقون به شيئاً فضلاً عن أن تفعلوا من المنازعة في المغنم فعل القاطع بالاستحقاق، اعلموا ذلك كله علم المصدق المؤمن المذعن لما علم لتنشأ عنه ثمرة العمل { إن كنتم } صادقين في أنكم { آمنتم بالله } أي الذي لا أمر لأحد معه { وما } أي وبالذي { أنزلنا } أي إنزالاً واحداً سريعاً لأجل التفريج عنكم من القرآن والجنود والسكينة في قلوبكم وغير ذلك مما تقدم وصفه { على عبدنا } أي الذي يرى دائماً أن الأفعال كلها لنا فلا ينسب لنفسه شيئاً إلا بنا { يوم الفرقان } أي يوم بدر الذي جعلنا لكم فيه عزاً ينفذ به أقوالكم وأفعالكم في فصل الأمور.
ولما وصفه سبحانه بالفرقان تذكيراً لهم بالنعمة، بينه بما صور حالهم إتماماً لذلك - أو أبدل منه - فقال: { يوم التقى } أي عن غير قصد من الفريقين بل بمحض تدبير الله { الجمعان } أي اللذان أحدهما أنتم وكنتم حين الترائي - لولا فضلنا - قاطعين بالموت، وثانيهما أعداؤكم وكانوا على اليقين بأنكم في قبضتهم، وذلك هو الجاري على مناهج العوائد، ولو قيل: يوم بدر، لم يفد هذه الفوائد.
ولما كان انعكاس الأمر في النصر محل عجب، ختم الآية بقوله: { والله على كل شيء } أي من نصر القليل على الكثير وعكسه وغير ذلك من جميع الأمور { قدير* } فكان ختمها بذلك كاشفاً للسر ومزيلاً للعجب ومبيناً أن ما فعل هو الجاري على سنن سنته المطرد في قديم عادته عند من يعلم أيامه الماضية في جميع الأعصر الخالية.
ولما ذكر لهم يوم ملتقاهم، صور لهم حالتهم الموضحة للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيراً لهم بذلك ردعاً عن المنازعة ورداً إلى المطاوعة فقال مبدلاً من { يوم الفرقان } { إذ أنتم } نزول { بالعدوة الدنيا } أي القربى إلى المدينة { وهم } أي المشركون نزول { بالعدوة القصوى } أي البعدى منها القريبة إلى البحر، والقياس قلب واوه ياء، وقد جاء كذلك إلا أن هذا أكثر كما كثر استصوب وقلّ استصاب، والعدوة - بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وبالضم في قراءة غيرهم: جانب الوادي وشطه، ومادتها - بأي ترتيب كان - تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعاً للعدو { والركب } أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان، ونصب على الظرف قوله: { أسفل منكم } أي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال - كما قال البغوي، وهو كان قصدهم وسؤلكم، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثماً بتلك العدوة جثوم الأسد واثقاً بما هو فيه من القوى والعدد كما قال صلى الله عليه وسلم لسلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه - لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، ما هو إلا أن لقيناهم فمنحونا أكتافهم - جواباً له
" "أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم" مع استضعافكم لأنفسكم عن مقاومتهم لولا رسولنا يبشركم وجنودنا تثبتكم، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب أيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعاً من الله، وما في البيضاوي تبعاً للكشاف من أن العدوة الدنيا كانت تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها تقدم رده أول السورة بأن المشهور في صحيح مسلم والسير وغيرها أن المؤمنين هم السابقون إلى الماء، وأن جميع أرض ذلك المكان كانت رملاً تسوخ فيه الأقدام، فأتى المسلمين به من المطر ما لبد لهم الأرض، وأتى المشركين منه ما لم يقدروا معه على الحركة { ولو تواعدتم } أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد { لاختلفتم في الميعاد } أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين: أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءكم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال: إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل - كما يزعم محمد - الله فما لأحد بالله من طاقة، وقوله أيضاً في هذه الغزوة للأخنس بن شريق: إن محمداً صادق وما كذب قط، فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه { ولكن } أي دبر ذلك سبحانه حتى توافيتم إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن أسبابه، فأطمعكم في العير أولاً مع ما أنتم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهماً وأخرج قريشاً لحماية عيرهم إخراجاً لم يجدوا منه بداً، ولما نجت عيرهم أوردهم الرياء والسمعة والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان - { ليقضي الله } أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعرازكم زإذلالهم { أمراً كان } كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام { مفعولاً } أي مقدراً في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به أيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر.
ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله: { ليقضي الله } علل تلك العلة بقوله: { ليهلك } أي لعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة { من هلك } أي من الفريقين: الكفار في حالة القتال وبعدها، والمسلمين هلاكاً متجاوزاً وناشئاً { عن } حالة { بينة } لما بان من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع أن ظاهر الحال يقضي لهم، فكان ذلك من أعظم المعجزات { ويحيى من حيّ } أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين، أو في أدنى الكمال بما يشيرإليه إدغام الباقين تخفيفاً حياة متجاوزة وناشئة { عن } حالة { بينة } أي كائنة بعد البيان في كون الكافرين على باطل والمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون
{ غر هؤلاء دينهم } [الأنفال: 49] فحينئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور.
ولما كان التقدير: فإن الله في فعل ذلك لعزير حكيم، عطف عليه قوله: { وإن الله لسميع } أي لما كنتم تقولونه وغيره { عليم* } بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمته وارجعوا عن منازعتكم لخشيته، ثم أتم سبحانه تصوير حالتهم بقوله مبيناً ما أشار إليه من لطف تدبره: { إذ } أي اذكر إذ أردت علم ذلك حين { يريكهم الله } أي الذي له صفات الكمال فهو يفعل ما يشاء { في منامك قليلاً } تأكيداً لما تقدم إعلامه به من أن المصادمة - فضلاً عما نشأ عنها - ما كان إلا منه وأنهم كانوا كالآلة التي لا اختيار لها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في منامه قليلاً فحدث أصحاب رضي الله عنهم بذلك فاطمأنت قلوبهم وشجعهم ذلك؛ وعين ما كان يحصل من الفساد لولا ذلك فقال: { ولو أراكهم } أي في منامك أو غيره { كثيراً }.
ولما كان الإخبار بعد الوقعة بضد ما وقع فيها مما يقتضي طبع البشر التوقف فيه، أكد قوله: { لفشلتم } أي جبنتم { ولتنازعتم } أي اختلفتم فنزع كل واحد منزعاً خلاف منزع صاحبه { في الأمر } أي فوهنتم فزادكم ذلك ضعفاً وكراهة للقائهم { ولكن الله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { سلم } أي ولكن لم يركهم كذلك فحصلت السلامة عما كان يتسبب عنها من النكوص، ثم بين العلة في ترتيبه ذلك وإخباره بهذا الأمر المفروض بقوله: { إنه عليم } أي بالغ العلم { بذات الصدور* } أي ضمائرها من الجراءة والجبن وغيرهما قبل خطورها في القلوب.
ولما بين ما نشأ عن رؤيته صلى الله عليه والسلم من قلتهم وما كان ينشأ عن رؤيته الكثرة لو وقعت، لأنه صلى الله عليه وسلم - لما هو عليه من النصيحة والشفقة - كان يخبرهم بما رأى كما أخبرهم في غزوة أحد بالبقر المذبحة؛ أتبعه ما فعل من اللطف في رؤيتهم بأنفسهم يقظة فقال: { وإذ } أي واذكروا أيضاً إذ { يريكموهم } أي يبصركم أياهم { إذ } أي حين { التقيتم } ونبه على أن الرؤية ليست على حقيقة ما هم عليه بقوله: { في أعينكم } أي لا في نفس الأمر حال كونهم { قليلاً } أي عددهم يسيراً أمرهم مصدقاً لما أخبركم به النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤياه لتجترئوا عليهم؛ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، قال الحرالي في آل عمران: فجعل القليل وصفاً لهم لازماً ثابتاً دائماً عليهم بما أوجب فيهم من نقص ذواتهم بخفاء فطرتهم وما وراء خلق الفطرة من الذوات، قال تعالى: { ويقللكم } صيغة فعل واقع وقت لا وصفاً لهم من حيث إنه لو أراهم أياهم على الإراءة الحقيقية لزادهم مضاعفين بالعشر، فكانوا يرونهم ثلاثة آلاف ومائتين وثلاثين - انتهى. { في أعينهم } قبل اللقاء ليجترئوا على مصادمتكم حتى قال أبو جهل: إنما هم أكلة جزور، ثم كثركم في أعينهم حين المصادفة حتى انهزموا حين فاجأتهم الكثرة فظنوا الظنون؛ قال الحرالي: قللهم حين لم يرهم أياهم على الإراءة - الحقيقية العشرية، ولا أراهم أياهم على الصورة الحسية؛ فكان ذلك أية للمؤمنين على قراءة ياء الغائب - أي في آل عمران - وكانت آية للكفار على قراءة { ترونهم } - بتاء الخطاب، فكان في ذلك في إظهار الإراءة في اعين الفئتين نحو مما كان من الإراءتين الواقعة بين موسى عليه السلام والسحرة في أن موسى عليه السلام ومن معه خيل إليهم من سحرهم أنها تسعى وأن فرعون ومن معه رأوا ثعباناً مبيناً يلقف ما يأفكون رؤية حقيقة، فتناسب ما بين الأيات الماضية القائمة لهذه الآية بوجه ما، وكان هذه الآية أشرف وألطف بما هي في مدافعة بغير آلة من عصى ولا حبل في ذوات الفئتين وإحساسهم - انتهى.
ولما ذكر ما أحاله سبحانه من إحساس الفئتين، علله بقوله: { ليقضي الله } أي الذي له العزة البالغة والحكمة الباهرة من نصركم وخذلانهم بأن تفاجئهم كثرتكم بعد رؤيتكم قليلاً فيشجعهم ذلك، ويهزمهم { أمراً كان مفعولاً } أي من إعجالهم - بما فجعهم من الكثرة بعد القلة - عن الحذر والاستعداد لذلك وبما فعل بأيديكم في هذه الغزوة من القتل والأسر والهزيمة المثمر لذل جميع أهل الكفر، كان مقدراً في الأزل فلا بد من وقوعه على ما حده لأنه لا راد لأمره ولا يبدل القول لديه، فعل ذلك كله وحده.
ولما كان التقدير: فبيده سبحانه ابتداء الأمور بتقديره أياها في الأزل لا بيد أحد غيره، عطف عليه قوله: { وإلى الله } أي الملك الأعلى الذي بيده وحده كل أمر { ترجع الأمور* } أي كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه، فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد، وهو من قولك: هذا الأمر راجع إليك، أي مهما أردته فيه مضى، ولو فرض أن غيرك عالجه لم يؤثر فيه؛ ولا يزال كذلك حتى يرجع إليك فيمضي، فالحاصل أن فيه قوة الرجوع بهذا الاعتبار وإن لم يكن هناك رجوع بالفعل، وفي هذا تنبيه على أن أمور الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد، ولما تقرر ذلك وتم على هذا السبيل الأحكم والمنهاج الأقوم، كان علة لمضمون قوله: { يا أيها الذين آمنوا } الآيتين، فكانتا نتيجته، لأنه إذا علم أن الأمر كله له ولا أثر لقلة ولا كثرة أثمر لمن هو في أدنى درجات الإيمان فضلاً عن غيره قلة المبالاة بالظالمين وإن تجاوزت قواهم الحد، وزادوا كثرة على العد، والآيتان تذكّرانهم بحالتهم التي أوجبت نصرهم ليلزموها في كل معترك ولا يتنازعوا كما تنازعوا في المغنم { إذا لقيتم } أي قاتلتم لأن اللقاء اسم للقتال غالب { فئة } أي طائفة مستحقة للقتال كما أغنى عن وصفها بذلك وصفهم بالإيمان { فاثبتوا } أي في لقائها بقتالها كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار { واذكروا الله } أي الذي له كل كمال فكل شيء يطلب فهو عنده يوجد { كثيراً } أي كما صنعتم ثَمَّ، لأن ذلك أمارة الصدق في الاعتماد عليه وحده، وذلك موجب للنصر لا محالة كما في الحديث القدسي
"إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه"
ولما أمر بذلك، علله بأداة الترجي، ليكون أدل على أنه سبحانه لا يجب عليه شيء فيكون للإيمان فقال: { لعلكم تفلحون* } أي لتكونوا على رجاء من الفلاح وهو الظفر بالمراد من النصر والأجر وكما كنتم إذ ذاك { وأطيعوا الله } أي الذي له الغنى المطلق فلا يقبل إلا الخالص والكمال الأكمل فلا يفعل إلا ما يريد { ورسوله } أي في الإقدام والإحجام لجهلكم بالعواقب، وتلك الطاعة أمارة إخلاصكم في الذكر { ولا تنازعوا } بأن يريد كل واحد نزع مال صاحبه من رأي وغيره وإثبات ما له، وأشار إلى عظيم ضرر التنازع ببيان ثمرته المرة فقال؛ { فتفشلوا } أي تضعفوا؛ قال في القاموس: فشل كفرح، فهو فشل، كسل وضعف وتراخي وجبن - انتهى. والمادة راجعة إلى الفيشلة وهي الحشفة، ومن لازمها الرخاوة وينشأ عن الرخاوة الجبن مع الصلف والخفة والطيش.
ولما كان الفشل ربما كان معه الظفر لفشل في العدو أكثر منه أو غير ذلك، عطف ما يلزمه غالباً بالواو دون الفاء فقال: { وتذهب ريحكم } أي غلبتكم وقوتكم، وأصله أن الريح إذا كانت في الحرب من جهة صف كانت في وجوه أعدائهم فمنعتهم بما يريدون فخذلوا فصارت كأنها قوة من أتت من عنده، فصارت يكنى بها عنها؛ ثم ختم هذه الأسباب بالجامع لشملها الناظم لمقاصد أهلها فقال؛ { واصبروا } أي على ما يكون من تلك المشاق فإنكم إن تكونوا تألمون فإن أعداءكم كذلك، وأنتم ترجون من الله ما لا يرجون؛ ثم علله بما يكون النصر في الحقيقة فقال: { إن الله } أي الميحط بصفات الكمال { مع الصابرين* } أي لأنهم لا يصبرون إلا اعتماداً عليه، ومن كان معه عز، وهذه الجملة فيها - كما قال الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية في آخر كتاب الفروسية المحمدية - تدبير الحروب أحسن جمع على أتم وجه، فأمر فيها بخمسة أشياء ما اجتمعت قط في فئة إلا انتصرت وإن قلت في جنب عدوها، وخامسها ملاك ذلك وقوامه وأساسه وهو الصبر، فعلى هذه الدعائم الخمس تبنى قبة النصر، ومتى زالت أو بعضها زال من النصر بحسبه، وإذا اجمتعت قوى بعضها بعضاً وصار لها أثر عظيم، لما اجتمعت في الصحابة رضي الله عنهم لم تقم لهم أمة من الأمم، ففتحوا البلاد شرقاً وغرباً ودانت لهم العباد سلماً وحرباً، ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت آل الأمر قليلاً قليلاً إلى ما ترى - فلا قوة إلا بالله، والجامع لذلك كله طاعة الله ورسوله فإنها موجبة لتأييد المطيع بقوة من هو في طاعته، وذلك سر قول أبي الدرداء رضي الله عنه الذي رواه البخاري في باب "عمل صالح قبل القتال": إنما تقاتلون الناس بأعمالكم؛ وهو شرع قديم، قال في أثناء السفر الخامس من التوارة: وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وتحفظتم وعملتم بكل هذه الوصية التي آمركم بها اليوم يبارك عليكم الله ربكم كما قال لكم، وترزقون إن تقرضوا شعوباً كثيرة ولا تقرضون، وتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلطون عليكم.