خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٦٨
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٩
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٠
وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٧١
-الأنفال

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما علم من الآية ما أشرت إليه، فكان كأنهم قالوا رضي الله عنهم: تقتضي عزته وحكمته سبحانه من تطهيرنا عما تدنسنا به؟ استأنف تعالى الجواب عن ذلك ممتناً غاية لامتنان ومحذراً من التعرض لمواقع الخسران فقال: { لولا كتاب } أي قضاء حتم ثابت مبرم { من الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء قدرة وعلماً { سبق } أي في أم الكتاب من الحكم بإسعادكم، ومن أنه لا يعذب أحداً إلا بعد التقدم إليه بالنهي، ومن أنه سيحل لكم الفداء والغنائم التي كانت حراماً على من قبلكم تشريفاً لكم - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما { لمسكم فيما أخذتم } أي من الأسرى المراد بهم الفداء { عذاب عظيم* } ولكن سبق حكمي بأن المغنم - ولو بالفداء - لكم حل وإن تعجلتم فيه أمري.
ولما ساق سبحانه هذه البشارة في النذارة، سبب عنها قوله: { فكلوا مما غنمتم } أي من الفدية وغيرها حال كونه { حلالاً } أي لا درك ولا تبعة فيه من جهتي { طيباً } أي شهياً لكم ملائماً لطباعكم، وهذا إذا كان مع الشروط التي أقمتها لكم من عدم الغلول والخيانة بوجه من الوجوه والاستثار وشديد الرغبة السائقة إلى ما لا يليق من التنازع وغيره، ذلك فيما تقدمت فيه إليكم { واتقوا الله } أي الذي له جميع صفات الكمال في جميع ذلك فلا تغلوا ولا تنازعوا ولا تقدموا إلا على ما يبيحه لكم الرسول صلى الله عليه وسلم { إن الله } أي المتصف بالجلال والإكرام { غفور } أي لمن يعلم من قبله أنه من أهل التقوى { رحيم* } أي له، فلأجل ما علم في قلوبكم من الخير غفر لكم فلم يعذبكم بتسرعكم إلى إسار من لم يأمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاداة دون توقف على إذنه، ورحمكم فأحسن إليكم فأحل لكم الغنائم، انظر إلى قوله تعالى { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم } تعرف حسن تعليل الأمر بالتقوى بالمغفرة والرحمة، ويجوز أن يكون علة للأكل، أي كلوا فإن الله قد غفر لكم ما عاتبكم عليه، وفائدة الأمر بالتقوى التحذير من العود اعتماداً على سعة الحلم، وايضاً فقد تقدم تهديد ومغفرة فناسب أن يدلهم على أن علة المغفرة التقوى، فكان ترجمة ذلك انه لما رهبهم بمس العذاب عند أخذ الفداء لولا سبق الكتاب، رغبهم بأنه كلما صدهم عن جنابه صارف ذنب فردهم إليه عاطف تقوى، أسبل عليهم ذيل المغفرة والرحمة، ولما علم من هذا إباحة ما يؤخذ من الأسر من الفداء، وكان ما يؤخذ منهم تعظم مشقته عليهم، أقبل عليهم مستعطفاً لهم ترغيباً في الإسلام، فأقبل على نبيه صلى الله عليه وسلم بالأمر بمخاطبتهم تنبيهاً على أنهم ليسوا بأهل لخطابه سبحانه بما أبعدوا أنفسهم عنه من اختيارهم الكون في زمرة الأعداء على الكون في عداد الأولياء، فقال معبراً بالوصف الناظر إلى تلقي العلم ترغيباً في التلقي منه صلى الله عليه وسلم: { يا أيها النبي } أي الذي أنبئه بكل معنى جليل، يظهر دينه ويزكي أمته مع رفع مقداره وإتمام أنواره { قل لمن في أيديكم } أي في أيدي أصحابك وأهل دينك، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب { من الأسرى } ترغيباً لهم فيما عند الله { إن يعلم الله } بما له من صفات الجلال والجمال { في قلوبكم خيراً } أي شيئاً من تقواه الحاملة على الإيمان الذي هو رأس الخير وعلى كل خير { يؤتكم خيراً مما أخذ منكم } أي مما يفتح به عليكم من المغانم في الدنيا ويدخره لكم من الثواب في الأخرى { ويغفر لكم } أي ما سلف من ذنوبكم { والله } أي الذي بيده كل شيء { غفور رحيم } أي من شأنه ذلك، والمعنى على ما علم من قصة العباس الآتيه رضي الله عنه أنه سبحانه يعاملكم وأمثالكم في غير ما يأخذه منكم جنده بالكرم، وأما إنه يحكم بإسقاط الفداء عنكم ويأمرهم بتركه وإطلاقكم مجاناً بما يعلم في قلوبكم من خير وإيمان كنتم تكتمونه فلا تطمعوا فيه لأن ذلك يفتح باب الدعاوى الباطلة المانعة من الغنائم الموهنة للدين؛ قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في سيرته: قال ابن عباس وسعيد بن المسيب:
"كان العباس رضي الله عنه في الأسرى فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: افد نفسك وابني أخيك عقيلاً ونوفلاً وخليتك فإنك ذو مال، فقال: يارسول الله! إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بإسلامك، إن كان حقاً ما تقول فالله يجزيك به، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، قال: ليس لي مال، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأين المال الذي وضعت عند أم الفضل حين خرجت وليس معك أحد؟ ثم قلت: إن أصبت في سفري هذا فأعطي الفضل كذا وعبد الله كذا! فقال: والذي بعثك بالحق! ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية وقال: تركتني أسأل الناس، وأسلم وأمر عقيلاً فأسلم، ولم يسلم من الأساري غيرهما" .
ولما كان التقدير: فإن صدقوك وقبلوا - بشرى الله، وفي لهم، عطف عليه قوله: { وإن يريدوا } أي الأسرى والكفار كلهم أو واحد منهم كأبي عزة { خيانتك } أي وأنت أعلى الخلق في عهد من إسلام أو غيره يوثقونه لك ترضى به في المن على أحد منهم، بغير فداء، يرد الله أن يكون وبال ذلك راجعاً إليهم فيمكن منهم، فلا تخش من أمرهم { فقد خانوا الله } أي الملك الأعظم؛ ولما كانت خيانتهم غير مستغرقة للزمن، أدخل الجار فقال: { من قبل } أي من قبل هذا الوقت بالكفر وغيره من أنواع الفسق { فأمكن } أي فأوجد الإمكان منهم، وقصره ليدل على أنهم صاروا سلماً لكل أحد { منهم } أي يوم بدر بسبب خيانتهم، فمثل ما أمكن منهم عند وقوع الخيانة سيمكنك منهم إذا أرادوا الخيانة، فإن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون { والله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء { عليم } أي بالغ العلم مطلقاً فهو يعلم الأشياء كلها التي منها أحوالهم { حكيم* } أي بالغ الحكمة فهو يتيقن كل ما يريده فهو يوهن كيدهم ويتقن ما يقابلهم به فيلحقهم لا محالة، وكذا فعل سبحانه في أبي عزة الجمحي فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في المن عليه بغير شيء لفقره وعياله وعاهده على أن لا يظاهر عليه أحداً ومدحه ثم خان فظهر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيراً، فاعتذر له وسأله في العفو عنه فقال: ألا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت بمحمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، وأمر به فضربت عنقه، وقال أبو حيان في الخيانه: هي كونهم اظهر بعضهم الإسلام ثم رجعوا إلى دينهم.