خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ
٤٤
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
٤٥
وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ
٤٦
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٤٧
-التوبة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما فاته صلى الله عليه وسلم معرفتهم بهذا الطريق، شرع العالم بما في الضمائر يصفهم له بما يعوض عن ذلك، فقال على طريق الجواب للسؤال: { لا يستئذنك } أي يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه { الذين يؤمنون بالله } أي يجددون الإيمان كل وقت حقاً من أنفسهم بالملك الذي له صفات الكمال { واليوم الآخر } أي الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب { أن } أي في أن { يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون: لا نستأذنه صلى الله عليه وسلم أبداً في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد مرة فأيّ فائدة في الاستئذان! ولنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا، وكانوا بحيث لو أمرهم صلى الله عليه وسلم بالعقود شق عليهم كما وقع لعلي رضي الله عنه في غزوة تبوك حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" ! ولما كان التقدير: فمن اتصف بذلك فاعلم أنه متق بأخبار الله، عطف عليه قوله: { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { عليم بالمتقين* } أي الذين يخافون الله كلهم.
ولما أخبر بالمتقين، عرف بغيرهم على وجه الحصر تأكيداً لتحقيق صفة العلم بما أخبر به سبحانه، فصار الاستئذان منفياً عن المؤمنين مرتين، فثبت للمنافقين على أبلغ وجه { إنما يستئذنك } أي في مثل ذلك فكيف بالاستئذان في التخلف! { الذين لا يؤمنون } أي يتجدد لهم إيمان { بالله } أي الملك الأعلى الذي له نهاية العظمة إيماناً مستجمعاً للشرائط { واليوم الآخر } لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً وإن ادعوا ولما كانت [هذه] صفة المصارحين بالكفر، بين أن المراد المنافقون بقوله: { وارتابت قلوبهم } أي تابعت الوساوس وتعمدت المشي معها حتى تخلقت بالشك؛ ولما كان الشاك لا يزال يتجاذبه حسن الفطرة وسوء الوسوسة، قال: { فهم } أي فتسبب عن ذلك أنهم { في ريبهم يترددون* } أي بين النفي والإثبات دأب المتحير لا يجزمون بشيء منهما وإن صدقوا أن الله موجود فإن المشركين يصدقون بذلك ولكنه لا ينفعهم للإخلال بشرطه، وليس استئذانهم في أن يجاهدوا لإرادة الجهاد بل توطئة لأن يقولوا إذا أمرتهم به: إنه لا عدة لنا في هذا الوقت فائذن لنا في التخلف حتى نستعد! وقد كذبوا، ما ذلك بهم، إنما بهم أنهم لا يريدون الخروج معك { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له } أي قبل حلوله { عدة } أي قوة واهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون متصفين بما قدمت إليهم من التحريض على نحو ما وقع الأمر به في الأنفال فيكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها { ولكن } لم يريدوا ذلك قط فلم يعدوا له عدة، فملا أمرت به شرعوا يعتلون بعدم العدة وما ذاك بهم، إنما مانعم كراهتهم للخروج وذلك بسبب أن { كره الله } أي ذو الجلال والإكرام بأن فعل فعل الكاره فلم يرد { انبعاثهم } أي سيرهم معك مطاوعة لأمرهم بذلك لما علم من عدم صلاحيتهم له { فثبطهم } أي حبسهم عنه حبساً عظيماً بما شغلهم بما بما حبب إليهم من الشهوات وكره إليهم من ارتكاب المشقات بسبب أنهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون غير السيف عقاباً، قصروا هممهم الدنية على الصفات البهيمية، فلما استولت عليهم الشهوات وملكتهم الأنفس الدنيات نودوا من قبلها: إلى أين تخرجون؟ { وقيل } أي لهم لما أسرعوا الإقبال إليها { اقعدوا } أي عن جندي لا تصحبوهم، وفي قوله -: { مع القاعدين* } أي الذين شانهم ذلك كالمرضى والزمنى والصبيان والنساء - من التبكيت ما لا يعلم مقداره إلا أولو الهمم العلية والأنفس الأبية، وعبر بالمجهول إشارة إلى أنهم يطيعون الأمر بالقعود حقيقة ومجازاً كائناً من كان كما انهم يعصون الأمر بالنفر كائناً من كان لأن أنفسهم قابلة للدنايا غير صالحة للمزايا بوجه.
ولما كان كأنه قيل: ما له ثبطهم وقد كنا قاصدين سفراً بعيداً وعدواً كثيراً شديداً فنحن محتاجون إلى الإسعاد ولو بتكثير السواد! قيل: و { لو } أي فعل ذلك بهم لأنهم لو { خرجوا فيكم } أي وإن كانوا قليلاً معمورين بجماعاتكم { ما زادوكم } أي بخروجهم شيئاً من الأشياء { إلا خبالاً } أي ما أتوكم بشيء زائد على ما عندكم من الأشياء غير الخبال، والاستثناء مفرغ والمستثنى منه - المقدر الثابت لهم الاتصاف به - هو الشيء، وذلك لا يقتضي اتصاف أحد منهم بالخبال قبل خروج المنافقين، والخبال: الفساد، وهو ينظر على الخداع والأخد على غرة { ولأوضعوا } أي أوقعوا الإيضاع، حذف المفعول إشارة إلى أن مرادهم الإيضاع نفسه لا بقيد دابة، وعبر بالإيضاع لأنه للراكب وهو أسرع من الماشي { خلالكم } أي لأسرعوا في السير ذهاباً وإياباً بينكم في تتبع عوراتكم وانتظار زلاتكم ليجدوا منها مدخلاً إلى الفساد بالنميمة وغيرها إن لم يجدوها، والإيضاع في السير يكون برفق ويكون بإسراع، والمراد به هنا الإسراع، ومادة وضع بجميع تراكيبها تدور على الحركة، وتارة تكون إلى علو وتارة إلى سفول، ويلزم ذلك السكونُ والمحلُ القابل لذلك، وعلى ذلك يتمشى العضو والعوض، وعَوض الذي هو بمعنى الدهر، وضوع الريح والتصويت بالبكاء، والضعة لشجرة في البادية، والوضع للطرح في مكان والسير اللين والسريع؛ والخلال جمع الخلل وهو الفرجة { يبغونكم } أي حال كونهم يريدون لكم { الفتنة } أي بتشتيت الشمل وتفريق الأصحاب وتقدم عند
{ { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [الأنفال: 39] أنها الخلطة المميلة المحلية، أي يريدون لكم الشيء الذي يصيبكم فغير حالتكم إلى ما يسوءكم فيسرهم { وفيكم } أي والحال أنه فيكم { سماعون لهم } أي في غاية القبول لكلامهم لضعف معارفهم وآرائهم. وربما كان سماعهم منهم مؤدياً إلى مطلوبهم { والله } أي الذي أخبركم بهذا من حالهم وله الإحاطة بكل شيء { عليم } بهم، فثقوا بأخبارهم. هكذا كان الأصل وإنما قال: { بالظالمين* } إشارة إلى الوصف الذي أوجب لهم الشقاء بمنعهم عن موطن الخير، وتعميماً للحكم بالعلم بهم وبمن سمع لهم ظالم، والحاصل أنه شبه سعيهم فيهم بالفساد بمن يوضع بعيره في أرض فيها أجرام شاخصة متقاربة، فهو في غاية الالتفات إلى معرفة ما فيها من الفرج والتأمل لذلك حذراً من أن يصيبه شيء من تلك الأجرام فيسقيه كأس الحمام، فلا شغل لهم إلا بغية فسادكم بعدم وصولكم إلى شيء من مرادكم.