خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٩٤
سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٩٥
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٩٦
ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٩٧
وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٩٨
-التوبة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقال مبيناً لعدم علمهم: { يعتذرون } أي يثبتون الأعذار لأنفسهم: وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله: { إليكم } أي عن التخلف { إذا رجعتم إليهم } أي من هذه الغزوة، كأنه قيل: فماذا يقال في جوابهم؟ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم: { قل لا تعتذروا } أي فإن أعذاركم كاذبة، ولذلك علل النهي بقوله: { لن نؤمن لكم } أي نصدقكم في شيء منها، ثم علل عدم تصديقهم بما أوجب لهم القطع بذلك فقال: { قد نبأنا الله } أي أعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء إعلاماً جليلاً { من أخباركم } أي التي ظننتم جهلاً بالله أنها تخفى فقد علمناها؛ ثم هددهم بقوله: { وسيرى الله } أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء { عملكم } أي بعد ذلك أتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل { ورسوله } أي بما يعلمه به سبحانه وحياً أو تفرساً، ولما كان الكلام في المنافقين، فكانت الرؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم، لم يذكرهم بخلاف من يأتي بعد فإنهم مؤمنون.
ولما كان هذا ربما أوهمهم أنه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع الإضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم: { ثم تردون } أي براد قاهر لا تقدرون على دفاعه بعد استيفاء آجالكم بالموت وإن طالت ثم البعث { إلى عالم الغيب } وهو ما غاب عن الخلق { والشهادة } وهو ما اطلع عليه أحد منهم. فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً { بما كنتم } أي بجبلاتكم { تعملون* } أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم، ولو تأخرتم لبرز، وهو تهديد عظيم، ووقع ترتيبهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب: الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم فقال سبحانه: { سيحلفون بالله } أي الذي لا أعظم منه { لكم إذا انقلبتم إليهم } أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف كذباً منهم إرادة أن يقلبوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم { لتعرضوا عنهم } أي إعراض الصفح عن معاتبتهم { فأعرضوا عنهم } إعراض المقت؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" "لا تجالسوهم ولا تكلموهم" ثم علل وجوب الإعراض بقوله { إنهم رجس } أي لا يطهرهم العتاب فهو عبث.
ولما كان من المقرر أنه لا بد لهم من جزاء، وأن النفس تتشوف إلى معرفته، قال: { ومأواهم } أي في الآخرة { جهنم جزاء } أي لأجل جزائهم { بما كانوا يكسبون* } أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره؛ المرتبة؛ الثالثة الحلف للرضى عنهم فقال: { يحلفون لكم } أي مجتهدين في الحلف بمن تقدم أنهم يحلفون به وهو الله { لترضوا عنهم } خوفاً من غائلة غضبكم { فإن ترضوا عنهم } أي لمجرد أيمانهم المبني على عدم إيمانهم { فإن الله } أي الذي له الغنى المطلق { لا يرضى } عنهم، هكذا كان الأصل ولكنه قال: { عن القوم الفاسقين* } إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك، والمعنى أنه لا ينفعهم رضاكم وتكونون به مخالفين الله، فهو في الحقيقة نهي للمؤمنين عن الرضى عنهم، أبرز في هذا الأسلوب العجيب المرقص، وفي ذلك رد على من يتوهم أن رضى المؤمنين لو رضوا عنهم يقتضي رضى الله، فإن ذلك رد نزعة مما يفعل الأحبار والرهبان في رضاهم وغضبهم وتحليلهم وتحريمهم الذي يعتقد أتباعهم أنه عن الله تعالى.
ولما ترتب سبحانه الاستئذان في العقود والرضى بما فيه من الدناءة على عدم الفقه تارة والعلم أخرى وختم بصنف الأعراب، بين أن الأعراب أولى بذلك لكونهم أعرق في هذا الوصف وأجرأ على الفسق لبعدهم عن معدن العلم وصرفهم أفكارهم في غير ذلك من أنواع المخازي لتحصيل المال الذي كلما داروا عليه طار عنهم فأبعد. فهم لا يزالون في همه قد شغلهم ذلك عن كل هم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً فقال تعالى: { الأعراب } أي أهل البدو { أشد } أي من أهل المدر { كفراً ونفاقاً } لبعدهم عن دار الهجرة ومعدن العلم وجفائهم بأن مرائي قلوبهم لم تصقل بأنوار الكتاب والسنة { وأجدر أن } أي وأحق بأن { لا يعلموا } ولما كان الإحجام أصعب من الإقدام، وأطراف الأشياء المختلطة في غاية الإلباس، قال: { حدود ما أنزل الله } أي المحيط علماً وحكمة بكل شيء { على رسوله } أي الذي أعلم الخلق من القرآن والشرائع والأحكام لعدم إقبالهم عليه شغلاً بغيره فإن الله يعلم ذلك منهم { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { عليم } أي بالغ العلم بكل شيء { حكيم* } أي بالغ الحكمة فهو يضع الأشياء في أتم محالها.
ولما أثبت هذا الوصف لهذا الصنف بين أن أفراده انقسموا إلى من ثبت على ما هو الأليق بحالهم، وقسم نزع إلى ما هو الأليق بأهل المدر، كما انقسم أهل المدر إلى مثل ذلك، وبدأ بالخبيث لأنه الأصل فيهم فقال: { ومن الأعراب } أي المذكورين { من يتخذ } أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد { ما ينفق مغرماً } أي فلا يبذله إلا كرهاً ولا يرى له فائدة أخروية بل يراه مثل الصنائع بالنهب ونحوه { ويتربص } أي يكلف نفسه الربص، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر { بكم الدوائر } أي الدواهي التي تدور بصاحبها فلا يتخلص منها، وذلك ليستريح من الإنفاق وغيره مما ألزمه به الدين.
ولما تربصوا هذا التربص، دعا عليهم بمثل ما تربصوا فقال: { عليهم دائرة السوء } أي دائماً لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم السين على أن معناه الشر والضر، وقراءة الباقين بالفتح على أنه مصدر، فهو ذم للدائرة.
ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس بهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع أخبارهم والعلم بها، جرت سنته تعالى في ختم مثل بقوله: { والله } أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة { سميع } يسمع ما يقولون { عليم* } أي فهو يعلم ما يضمرون عطفاً على نحو أن يقال: فالله على كل شيء قدير، ونحوه قوله { إنني معكما أسمع وأرى }.