خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٠
وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
-يونس

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ دَعْوَاهُمْ } أي دعاؤُهم وهو مبتدأٌ وقوله عز وجل: { فِيهَا } متعلقٌ به وقوله تعالى: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } خبرُه أي دعاؤهم هذا الكلامُ وهو معمولٌ لمقدر لا يجوز إظهارُه والمعنى اللهم إنا نسبّحك تسبـيحاً، ولعلهم يقولونه عندما عاينوا فيها من تعاجيبِ آثارِ قدرتِه تعالى ونتائجِ رحمتِه ورأفتِه ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر تقديساً لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصانِ وتنزيهاً لوعده الكريمِ عن سمات الخُلف { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا } التحيةُ التكرمةُ بالحالة الجليلة أصلُها أحياك الله حياةً طيبة، أي ما يحيـي به بعضُهم بعضاً أو تحيةُ الملائكةِ إياهم كما في قوله تعالى: { { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـٰمٌ } [الرعد: 23] أو تحيةُ الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى: { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [يس: 58] { سَلَـٰمٌ } أي سلامةٌ من كل مكروه { دَعْوٰهُمْ فِيهَا } أي خاتمةُ دعائِهم { أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي أن يقولوا ذلك نعتاً له عز وجل بصفات الإكرام إثرَ نعتِه تعالى بصفات الجلال، أي دعاؤهم منحصِرٌ فيما ذُكر إذ ليس لهم مطلبٌ مترقّبٌ حتى ينتظموا في سلك الدعاء، وأن هي المخففةُ من أنّ المثقلة أصلُه أنه الحمدُ لله فحُذف ضميرُ الشأنِ كما في قوله:

أنْ هالكٌ كلُّ من يحفىٰ وينتعلُ

وقرىء أنّ الحمدَ لله بالتشديد ونصبِ الحمدُ ولعل توسيط ذكرِ تحيتِهم عند الحكايةِ بـين دعائِهم وخاتمتِه للتوسل إلى ختم الحكايةِ بالتحميد تبرّكاً مع أن التحيةَ ليست بأجنبـية على الإطلاق، ودعوى كونِ ترتيبِ الوقوعِ أيضاً كذاك ـ بأن كانوا حين دخلوا الجنةَ وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءَه مجدّوه ونعتوه بنعوت الجلالِ ثم حياهم الملائكةُ بالسلامة من الآفات والفوزِ بأصناف الكراماتِ أو حياهم بذلك ربُّ العزةِ فحمِدوه تعالى وأثنَوا عليه ـ يأباها إضافةُ الآخرِ إلى دعواهم وقد جوز أن يكون المرادُ بالدعاء العبادةَ كما في قوله تعالى: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } [مريم: 48] الخ، إيذاناً بأنْ لا تكليفَ في الجنة أي ما عبادتُهم إلا أن يسبحوه ويحمَدوه وليس ذلك بعبادة إنما يُلْهمونه وينطِقونه تلذذاً ولا يساعده تعيـينُ الخاتمة.

{ وَلَوْ يُعَجّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ } هم الذين لا يرجون لقاءَ الله تعالى لإنكارهم البعثَ وما يترتب عليه من الحساب والجزاءِ، أشير إلى بعض من عظائمِ معاصيهم المتفرّعةِ على ذلك وهو استعجالُهم بما أُوعدوا به من العذاب تكذيباً واستهزاءً وإيرادُهم باسم الجنسِ لما أن تعجيلَ الخيرِ لهم ليس دائراً على وصفهم المذكور إذ ليس كلُّ ذلك بطريق الاستدراجِ أي لو يعجل الله لهم { ٱلشَّرَّ } الذي كانوا يستعجلون به فإنهم كانوا يقولون: { { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32] ونحو ذلك وقوله تعالى { ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ } نصبَ على أنه مصدرٌ تشبـيهيٌّ وُضع موضِعَ مصدرٍ ناصبِه دلالةً على اعتبار الاستعجالِ في جانب المشبّهِ كاعتبار التعجيلِ في جانب المشبه به وإشعاراً بسرعة إجابتِه تعالى لهم حتى كان استعجالُهم بالخير نفسَ تعجيلِه لهم، والتقديرُ ولو يعجل الله لهم الشرَّ عند استعجالِهم به تعجيلاً مثلَ تعجيلِه لهم الخيرَ عند استعجالِهم به فحُذف ما حذف تعويلاً على دلالة الباقي عليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأدّىٰ إليهم الأجلَ الذي عيّن لعذابهم وأُميتوا وأهلِكوا بالمرة وما أُمهلوا طرفةَ عينٍ، وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول جريٌ على سنن الكبرياءِ مع الإيذان بتعيـين الفاعلِ، وقرىء على البناء للفاعل كما قرىء لقضينا، واختيارُ صيغةِ الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضيِّ لإفادة أن عدم قضاءِ الأجلِ لاستمرار عدمِ التعجيل، فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرارِ الفعل بل قد يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً بحسب المقامِ كما حقق في موضعه، واعلم أن مدارَ الإفادةِ في الشرطية أن يكون التالي أمراً مغايراً للمقدّم في نفسه مترتباً عليه في الوجود كما في قوله عز وجل: { { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [الحجرات: 7] فإن العنَتَ أي الوقوعَ في المشقة والهلاكِ أمرٌ مغايرٌ لطاعته عليه الصلاة والسلام لهم مترتبٌ عليها في الوجود أو يكون فرداً كاملاً من أفراده ممتازاً عن البقية بأمر يخصّه كما في الأجزية المحذوفة في مثل قولِه تعالى: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ } [الأنعام: 30] وقوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } [الأنعام: 27] وقوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ } [السجدة: 12] ونظائرِها أي لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً أو نحوَ ذلك وكما في قوله تعالى: { { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [فاطر: 45] إذا فسر الجوابُ بالاستئصال فإنه فردٌ كاملٌ من أفراد مطلقِ المؤاخذة قد عبّر عنه بما لا مزيدَ عليه في الدلالة على الشدة والفظاعةِ، فحسنُ موقعِه في معرض التالي للمؤاخذة المطلقةِ وأما ما نحن فيه من القضاء فليس بأمر مغايرٍ لتعجيل الشرِّ في نفسه، وهو ظاهرٌ بل هو إما نفسُه أو جزئيٌّ منه كسائر جزئياتِه من غير مزّيةٍ له على البقية إذا لم يُعتبر في مفهومه ما ليس مفهوم تعجيلِ الشرِّ من الشدة والهولِ فلا يكونُ في ترتّبه عليه وجوداً أو عدماً مزيدُ فائدةٍ مصحِّحة لجعله تالياً له فالحقُّ أن المقدمَ ليس نفسَ التعجيلِ المذكورِ بل هو إرادتُه المستتبعةِ للقضاء المذكورِ وجوداً وعدماً كما في قوله تعالى: { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } [الكهف: 58] أي لو يريد مؤاخذتهم، فإن تعجيلَ العذاب لهم نفسُ المؤاخذةِ أو جزئيٌّ من جزئياتها غيرُ ممتازٍ عن البقية فليس في بـيان ترتبِه عليها وجوداً أو عدماً مزيدُ وإنما الفائدة في ترتبه على إرادتها حسبما ذكر، وأيضاً في ترتب التالي على إرادة المقدمِ ما ليس في ترتبه على نفسه من الدِلالة على المبالغة وتهويلِ الأمر والدلالةِ على أن الأمور منوطةٌ بإرادته تعالى المبنيّة على الحِكم البالغة { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } بنون العظمة الدالة على التشديد في الوعيد وهو عطفٌ على مقدر تنبىء عنه الشرطيةُ كأنه قيل: لكن لا نفعل ذلك لما تقتضيه الحكمةُ فنتركهم إمهالاً واستدراجاً { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } الذي هو عدمُ رجاءِ اللقاء، وإنكارُ البعثِ والجزاءِ وما يتفرع على ذلك من أعمالهم السيئةِ ومقالاتهم الشنيعة { يَعْمَهُونَ } أي يترددون ويتحيرون ففي وضع الموصولِ موضعَ الضمير نوعٌ بـيانٍ للطغيان بما في حيز الصلةِ وإشعارٌ بعليّته للترك والاستدارج.