خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
١٠٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
١٠٦
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٠٧
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَوْمَ يَأْتِ } أي حين يأتي ذلك اليومُ المؤخَّرُ بانقضاء أجلِه كقوله تعالى: { أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ } [يوسف: 107] وقيل: يومَ يأتي الجزاءُ الواقعُ فيه، وقيل: أي الله عز وجل فإن المقام مقامُ تفخيمِ شأنِ اليوم وقرىء بإثبات الياء على الأصل { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ، وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى: { إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى: { { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [النبأ: 38] وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليومِ وقولُه عز وجل: { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 35] في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه: { { يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا } [النحل: 111] في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ، نعم قد يُؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة: { وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23] ونظائرِه { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ } وجبت له النارُ بموجب الوعيد { وَسَعِيدٌ } أي ومنهم سعيدٌ، حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنةُ بمقتضى الوعد، والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله: { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أو للناس، وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقامَ مقامُ التحذير والإنذار.

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ } أي سبَقَت لهم الشقاوةُ { فَفِى ٱلنَّارِ } أي مستقرّون فيها { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ ردُّه وجاء استعمالُهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش:

بعيدُ مدى التطريب، أولُ صوتِهزفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ

والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبـيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبـيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرىء شقوا بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلاً قال: ما شأنُهم فيها؟ فقيل: لهم فيها كذا وكذا، أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه: { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } خلا أنه إن أريد حدوثُ كونِهم في النار فالحالُ مقدرةٌ { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي مدةَ دوامِها وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأبـيد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب: ما دام تعار وما أقام ثَبـيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبـيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبـيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى: { { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم: 48] وقولِه تعالى: { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء } [الزمر: 74] وجزم كلُّ أحدٍ بأن أهلَ الآخرةِ لا بد لهم من مِظلّة ومِقلّة دائمتين يكفي في تعليق دوامِ قرارِهم فيها بدوامهما، ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالِهما وكيفياتهما { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } استثناءٌ من الخلود على طريقة قوله تعالى: { { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [الدخان: 56] وقوله: { { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء: 22] وقولِه تعالى: { حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِى سَمّ ٱلْخِيَاطِ } [الأعراف: 40] غير أن استحالة الأمورِ المذكورةِ معلومةٌ بحكم العقلِ، واستحالةَ تعلّق المشيئةِ بعدم الخلودِ معلومةٌ بحكم النقل يعني أنهم مستقرّون في النار في جميع الأزمنةِ إلا في زمان مشيئةِ الله تعالى لعدم قرارِهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئةِ ولا لزمانها بحكم النصوصِ القاطعة الموجبةِ للخلود فلا إمكانَ لانتهاء مدةِ قرارِهم فيها ولدفع ما عسى يُتوّهم من كون استحالةِ تعلق مشيئةِ الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوبِ على الله تعالى قال: { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } يعني أنه في تخليد الأشقياءِ في النار بحيث يستحيل وقوعُ خلافةِ فعالٌ بموجب إرادته قاضٍ بمقتضى مشيئتِه الجارية على سنن حكمته الداعيةِ إلى ترتيب الأجزيةِ على أفعال العبادِ، والعدولُ من الإضمار إلى الإظهار لتربـية المهابةِ وزيادةِ التقريرِ، وقيل: هو استثناءُ من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلّدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أُخَرَ من العذاب وبما هو أغلظُ منها كلِّها وهو سَخَطُ الله تعالى عليهم وخَسْؤه لهم وإهانتُه إياهم، وأنت تدري أنا وإن سلّمنا أن المرادَ بالنار ليس مطلقَ دارِ العذاب المشتملةِ على أنواع العذابِ بل نفسَ النار فما خلا عذابَ الزمهريرِ من تلك الأنواعِ مقارِنٌ لعذاب النار فلا مِصداقَ في ذلك للاستثناء، ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجُسماني الذي هو عذابُ النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوباتُ والآلامُ الروحانية التي لا يقف عليها في هذه الحياة الدنيا المنغمِسون في أحكام الطبـيعةِ المقصورُ إدراكُهم على ما ألِفوا من الأحوال الجُسمانية، وليس لهم استعدادٌ لتلقّي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانيةِ إذا ألقيَ إليهم، ولذلك لم يتعرّض لبـيانه واكتُفي بهذه المرتبةِ الإجماليةِ المنبئةِ عن التهويل، وهذه العقوباتُ وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسَوْن بها عذابَ النارِ ولا يُحِسّون به، وهذه المرتبةُ كافيةٌ في تحقيق معنى الاستثناءِ هذا، وقد قيل: إلا بمعنى سوى وهو أوفقُ بما ذكر وقيل: ما بمعنى مَنْ على إرادة معنى الوصفيةِ فالمعنى إن الذين شقُوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودِهم فيها وهم عصاةُ المؤمنين.