خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
٢
وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٣
-الرعد

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

(سورة الرعد) { المر } اسمٌ للسورة ومحلُّه إما الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورةُ بهذا الاسمِ وهو أظهرُ من الرفع على الابتداء إذ لم يسبِق العلَم بالتسمية كما مر مراراً وقوله تعالى: { تِلْكَ } على الوجه الأول مبتدأ مستقلٌ وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثانٍ أو بدل من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته. وإما النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحوُ اقرأ أو اذكر، فتلك مبتدأٌ كما إذا جعل آلمر مسروداً على نمط التعديدِ أو بمعنى أنا الله أعلمُ وأرى على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، والخبر على التقادير قوله تعالى: { آياتِ ٱلْكِتَـٰبِ } أي الكتابِ العجيب الكامل الغنيِّ عن الوصف به المعروفِ بذلك من بـين الكتب الحقيقِ باختصاص اسم الكتابِ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزّل حينئذ حسبما مر في مطلع سورةِ يونُسَ إذ هو المتبادرُ من مطلق الكتابِ المستغني عن النعت، وبه يظهر ما أريد من وصف الآياتِ بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ بخلاف ما إذا جُعل عبارةً عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك، المغنية عن التصريح بالوصف على أنها عبارةٌ عن جميع آياتِها فلا بد من جعل (تلك) إشارةً إلى كل واحدةٍ منها، وفيه ما لا يخفى من التعسف الذي مر تفصيلُه في سورة يونس.

{ وَٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أي الكتابَ المذكور بكماله لا هذه السورةُ وحدها { ٱلْحَقّ } الثابتُ المطابق للواقع في كل ما نطق به، الحقيقُ بأن يُخَصّ به الحقّيةُ لعراقته فيها، وليس فيه ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلاً على أن حقّيتَه مستتبِعةٌ لحقية سائرِ الكتبِ السماوية لكونه مصدّقاً لما بـين يديه ومهيمِناً عليه، وفي التعبـير عنه بالموصول وإسنادِ الإنزال إليه بصيغة المبنيِّ للمفعول والتعرّضِ لوصف الربوبـية مضافاً إلى ضميره عليه السلام ـ من الدلالة على فخامة المنزَّل التابعةِ لجلالة شأنِ المنزَّل وتشريفِ المنزَّل إليه والإيماءِ إلى وجه بناءِ الخبر ـ ما لا يخفى { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } بذلك الحقِّ المبـين، لإخلالهم بالنظر والتأملِ فيه، فعدمُ إيمانهم متعلقٌ بعنوان حقّيتِه لأنه المرجِعُ للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونِه منزلاً كما قيل ولأنه واردٌ على طريقة الوصفِ دون الإخبار.

{ ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } أي خلقهن مرتفعاتٍ على طريقة قولِهم: سبحان من كبّر الفيل وصغّر البعوض، لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك، والجملةُ مبتدأ وخبرٌ كقوله: { { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ } [الرعد: 3] { بِغَيْرِ عَمَدٍ } أي بغير دعائمَ جمع عِماد كإهاب وأَهَب وهو ما يُعمَد به أي يُسند، يقال: عمَدتُ الحائطَ أي أدعمته، وقرىء عُمُد على جمع عَمود بمعنى عماد كرُسُل ورسول، وإيرادُ صيغةِ الجمع لجمع السموات، لا لأن المنفيَّ عن كل واحدة منها عَمدٌ لا عماد { تَرَوْنَهَا } استئنافٌ استُشهد به على ما ذكر من رفع السموات بغير عمد، وقيل: صفة لعَمَدٍ جيء بها إيهاماً لأن لها عمداً غيرَ مرئيةٍ هي قدرة الله تعالى.

{ ثُمَّ ٱسْتَوَى } أي استولى { عَلَى ٱلْعَرْشِ } بالحفظ والتدبـير أو استوى أمرُه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ لله عز وجل بلا كيف، وأياً ما كان فليس المرادُ به القصدَ إلى إيجاد العرش وخلقِه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثم للتراخي في الرتبة { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } ذللهما وجعلهما طائعَين لما أريد منهما من الحركات وغيرها { كُلٌّ } من الشمس والقمر { يَجْرِى } حسبما أريد منها { لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } لمدة معينةٍ فيها تتم دورتُه كالسنة للشمس والشهر للقمر، فإن كلاًّ منهما يجري كلَّ يوم على مدار معينٍ من المدارات اليوميةِ أو لمدة ينتهي فيها حركاتُهما ويخرج جميعُ ما أريد منهما من القوة إلى الفعل، أو لغاية يتم عندها ذلك والجملةُ بـيانٌ لحكم تسخيرهما.

{ يُدَبّرُ } بما صنع من الرَّفْع والاستواء والتسخير أي يقضي ويقدّر حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة { ٱلأَمْرُ } أمرَ الخلق كلَّه وأمرَ ملكوتِه وربوبـيتِه { يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } الدالةَ على كمال قدرتِه وبالغِ حكمتِه أي يأتي بها مفصلةً وهي ما ذكر من الأفعال العجيبةِ وما يتلوها من الأوضاع الفلكيةِ الحادثةِ شيئاً فشيئاً المستتبعةِ للآثار الغريبة في السُّفليات على موجب التدبـيرِ والتقديرِ، فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله: { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } من تتمة الاستواءِ وإما مفسّرتان له أو الأولى حالٌ منه والثانية من الضمير فيه أو كلاهما من ضمائر الأفعالِ المذكورة وقوله: { كُـلٌّ يَجْرِى لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } من تتمة التسخيرِ أو خبران عن قوله: الله خبراً بعد خبر، والموصولُ صفةٌ للمبتدأ جيء به للدلالة على تحقيق الخبرِ وتعظيمِ شأنِه كما في قول الفرزدق

إن الذي سمك السماءَ بنى لنابـيتاً دعائمُه أعزُّ وأطول

{ لَعَلَّكُمْ } عند معاينتِكم لها وعثورِكم على تفاصيلها { بِلِقَاء رَبّكُمْ } بملاقاته للجزاء { تُوقِنُونَ } فإن من تدبّرها حقَّ التدبر أيقن أن من قدَر على إبداع هذه الصنائعِ البديعةِ على كل شيء قديرٌ وأن لهذه التدبـيراتِ المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بد من وصولها وقد بُـيّنتْ على ألسنة الأنبـياءِ عليهم السلام أن ذلك ابتلاءٌ للمكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالِهم فإذن لا بد من الإيقان بالجزاء، ولمّا قرر الشواهدَ العلوية أردفها بذكر الدلائلِ السفلية فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ } أي بسطها طولاً وعَرضاً، قال الأصم: المد هو البسطُ إلى ما لا يدرك منتهاه فيه دَلالةٌ على بعد مداها وسَعةِ أقطارها { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } أي جبالاً ثوابتَ في أحيازها من الرُّسوّ وهو ثباتُ الأجسام الثقيلة، ولم يُذكر الموصوفُ لإغناء غلبة الوصفِ بها عن ذلك، وانحصارُ مجيءِ فواعل جمعاً لفاعل في فوارسَ وهوالكَ ونواكسَ إنما هو في صفات العقلاءِ وأما في غيرهم فلا يراعى ذلك أصلاً كما في قوله تعالى: { { أَيَّامًا مَّعْدُودٰتٍ } [البقرة: 184] وقوله: { { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ } [البقرة: 197] إلى غير ذلك، فلا حاجة إلى أن يُجعل مفردُها صفةً لجمع القلة أعني أجبُلاً ويعتبر في جمع الكثرة ـ أعني جبالاً ـ انتظامُها لطائفة من جموع القلة وتنزيلُ كلَ منها منزلة مفردِها كما قيل على أنه لا مجال لذلك فإن جمعيةَ كلَ من صيغتي الجمعَين إنما هي باعتبار الأفرادِ التي تحتها لا باعتبار انتظام جمعِ القلةِ للأفراد وجمعِ الكثرة لجموع القِلة فكلٌّ منهما جمعُ جبلٍ لا أن جبالاً جمعُ أجبل، كما أن طوائفَ جمعُ طائفة ولا إلى أن يُلتجأَ إلى جعل الوصفِ المذكور بالغلبة في عداد الأسماءِ التي تُجمع على فواعل كما ظن، على أنه لا وجه له لما أن الغلبةَ إنما هي في الجمع دون المفردِ، والتعبـيرُ عن الجبال بهذا العنوانِ لبـيان تفرّعِ قرارِ الأرض على ثباتها { وَأَنْهَـٰراً } مجاريَ واسعةً، والمرادُ ما يجري فيها من المياه، وفي نظمها مع الجبال في مفعولية فعلٍ واحد إشارةٌ إلى أن الجبالَ منشأٌ للأنهار وبـيانٌ لفائدة أخرى للجبال غيرِ كونها حافظةً للأرض عن الاضطراب المُخِلّ بثبات الأقدام وتقلّب الحيوان متفرّعةً على تمكنه وتقلّبه وهي تعيُّشُه بالماء والكلأ.

{ وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } متعلقٌ بجعل في قوله تعالى: { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي اثنيْنيّةً حقيقيةً وهما الفرادنِ اللذان كلٌّ منهما زوجُ الآخر وأكّد به الزوجين لئلا يُفهم أن المرادَ بذلك الشفْعان إذ يطلق الزوجُ على المجموع ولكنْ اثنينيةً اعتبارية، أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربـين وصِنفين إما في اللون كالأبـيض والأسود أو في الطعم كالحُلو والحامض. أو في القدر كالصغير والكبـير، أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك، ويجوز أن يتعلق بجعَلَ الأولِ، ويكونَ الثاني استئنافاً لبـيان كيفيةِ ذلك الجعْل { يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } استعارةٌ تبعيةٌ تمثيليةٌ مبنيَّةٌ على تشبـيه إزالةِ نورِ الجو بالظلمة بتغطية الأشياءِ الظاهرةِ بالأغطية، أي يستر النهارَ بالليل. والتركيب وإن احتمل العكسَ أيضاً بالحمل على تقديم المفعولِ الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضاً ساترٌ لظلمة الليلِ إلا أن الأنسبَ بالليل أن يكون هو الغاشي، وعدُّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية ـ وإن كان تعلقُه بالآيات العلوية ظاهراً ـ باعتبار أن ظهورَه في الأرض فإن الليل إنما هو ظلُّها وفيما فوق موقعِ ظلها لا ليلَ أصلاً ولأن الليل والنهار لهما تعلقٌ بالثمرات من حيث العقدُ والإنضاج على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلُها وقرىء يُغشّي من التغشية { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذكر من مد الأرضِ وإيتادِها بالرواسي وإجراءِ الأنهار وخلق الثمرات وإغشاءِ الليل النهارَ، وفي الإشارة بذلك تنبـيهٌ على عظم شأنِ المشار إليه في بابه { لأَيَاتٍ } باهرةً وهي آثارُ تلك الأفاعيل البديعةِ جلت حكمةُ صانعِها، (ففي) على معناها فإن تلك الآثارَ مستقرةٌ في تلك الأفاعيل منوطةٌ بها، ويجوز أن يُشار بذلك إلى تلك الآثار المدلولِ عليها بتلك الأفاعيل (ففي) تجريدية { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فإن التفكر فيها يؤدّي إلى الحكم بأن تكوين كلَ من ذلك على هذا النمط الرائِق والأسلوب اللائق لا بد له من مكوّن قادرٍ حكيم يفعل ما يشاء ويختار ما يريد لا معقِّبَ لحكمه وهو الحميد المجيد.