خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ
٤
مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
٥
وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
٦
-الحجر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَآ أَهْلَكْنَا } شروعٌ في بـيان سرِّ تأخيرِ عذابهم إلى يوم القيامة وعدمِ نظمِهم في سلك الأمم الدارجةِ في تمحيل العذاب أي ما أهلكنا { مِن قَرْيَةٍ } من القرى بالخَسف بها وبأهلها كما فُعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غِبَّ إهلاكِهم كما فُعل بآخرين { إِلاَّ وَلَهَا } في ذلك الشأن { كِتَابٌ } أي أجلٌ مقدرٌ مكتوبٌ في اللوح واجبُ المراعاة بحيث لا يمكن تبديلُه لوقوعه حسب الحكمةِ المقتضيةِ له { مَّعْلُومٌ } لا يُنسى ولا يُغفل عنه حتى يُتصورَ التخلفُ عنه بالتقدم والتأخر، فكتابٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ، والجملةُ حالٌ من (قرية) فإنها لعمومها ـ لا سيما بعد تأكّدِه بكلمة مِنْ ـ في حكم الموصوفة كما أشير إليه، والمعنى ما أهلكنا قريةً من القرى في حال من الأحوال إلا حالَ أن يكون لها كتابٌ أي أجلٌ موقتٌ لمهلِكها قد كتبناه لا نُهلكها قبل بلوغِه، معلومٌ لا يُغفل عنه حتى يمكنَ مخالفتُه بالتقدم والتأخر، أو مرتفعٌ بالظرف والجملةُ كما هي حال، أي ما أهلكنا قريةً من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق هلاكِها كتابٌ أي أجلٌ مقدّرٌ مكتوبٌ في اللوح معلومٌ لا يُغفل عنه، أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التي هي بدلٌ من المذكورة على المختار فيكون بمنزلة كونِه صفةً للمذكورة، أي ما أهلكنا قريةً من القرى إلا قريةً لها كتابٌ معلوم كما في قوله تعالى: { { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ } [الغاشية: 6و7] فإن قوله تعالى: { لاَّ يُسْمِنُ } صفةٌ لكن لا للطعام المذكورِ لأنه إنما يدلّ على انحصار طعامِهم الذي لا يُسمن في الضريع، وليس المرادُ ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا، أي ليس لهم طعامٌ من شيء من الأشياء إلا طعامٌ لا يُسمن، فليس فيه فصلٌ بـين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما تُوُهم، وأما توسيطُ الواو بـينهما وإن كان القياسُ عدمَه فللإيذان بكمال الالتصاقِ بـينهما من حيث إن الواوَ شأنُها الجمعُ والربطُ، فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لُصوقاً بالموصوف منها به في قوله تعالى: { { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [الشعراء: 208] فإن امتناعَ الانفكاك والإهلاكِ عن الأجل المقدرِ عقليٌّ، وعن الإنذار عاديٌّ، جرى عليه السنةُ الإلٰهيةُ.

ولما بـيّن أن الأممَ المهلَكة كان لكل منهم وقتٌ معين لهلاكهم وأن هلاكَهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوباً في اللوح، بـيّن أن كلَّ أمةٍ من الأمم منهم ومن غيرهم لها كتابٌ لا يمكن التقدمُ عليه ولا التأخر عنه فقيل:

{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ } من الأمم المهلَكة وغيرِهم { أَجَلُهَا } المكتوبَ في كتابها، أي لا يجيء هلاكُها قبل مجيءِ كتابِها، أو لا تمضي أمةٌ قبل مُضيِّ أجلها، فإن السبْقَ إذا كان واقعاً على زمانيّ فمعناه المجاوزةُ والتخليف، فإذا قلت: سبق زيدٌ عمْراً، فمعناه أنه جاوزه وخلّفه وراءه، وإذا كان واقعاً على زمان كان الأمرُ بالعكس، والسرُّ في ذلك أن الزمانَ يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى المتكلم فما سبَقه يتحقق قبل تحققِه، وأما الزمانيُّ فإنما يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى ما سيأتي من الزمان، فالسابقُ ما تقدم إلى المقصِد، وإيرادُه بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيرادَه بعنوان الكتابِ المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك { وَمَا يَسْتَـئْخِرُونَ } أي وما يتأخرون، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له، وإيثارُ صيغةِ المضارع في الفعلين بعد ما ذُكر نفيُ الإهلاكِ بصيغة الماضي، لأن المقصودَ بـيانُ دوامِهما واستمرارِهما فيما بـين الأمم الماضية والباقية، وإسنادُهما إلى الأمة بعد إسنادِ الإهلاكِ إلى القرية لما أن السبقَ والاستئخارَ حالُ الأمةِ دون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرِهم ممن أُخِّرت عقوباتُهم إلى الآخرة، وتأخيرُ ذكر عدمِ سبقِهم مع كون المقام مقامَ المبالغةِ في بـيان تحققِ عذابِهم، إما باعتبار تقدّمِ السبقِ في الوجود وإما باعتبار أن المرادَ بـيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم لذلك، وإيرادُ الفعل على صيغة جمع المذكرِ للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصلِ، ولذلك حُذف الجار والمجرور، والجملةُ مبـينة لما سبق والمعنى أن تأخيرَ عذابِهم إلى يوم القيامة حسبما أشير إليه ببـيان وَدادتِهم للإسلام إذ ذاك، وبالأمر بتركهم وشأنَهم إلى أن يعلموا حقيقةَ الحال إنما هو لتأخّر أجلِهم المقدرِ لما يقتضيه من الحِكَم البالغةِ، ومن جملتها ما علم الله تعالى من إيمان بعضِ من يخرُجُ منهم إلى يوم القيامة.

{ وَقَالُواْ } شروعٌ في بـيان كفرِهم بمن أنزل عليه الكتابُ بعد بـيانِ كفرهم بالكتاب وما يؤول إليه حالُهم، والقائلون مشركو مكةَ لغاية تماديهم في العتوّ والغي { يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ } خاطبوا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا تسليماً لذلك واعتقاداً له، بل استهزاءً به عليه الصلاة والسلام وإشعاراً بعلة حكمِهم الباطل في قولهم: { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } كدأب فرعونَ إذ قال: { { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27] يعنون يا من يدّعي مثل هذا الأمر البديعِ الخارقِ للعادات، إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عندما تدّعي أنه ينزل عليك لمجنون، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على القائم مَقامَ الفاعل لأن إنكارهم متوجِّهٌ إلى كون النازل ذِكْراً من الله تعالى، لا إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله بعد تسليم كون النازلِ منه تعالى كما في قوله تعالى: { { لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] فإن الإنكارَ هناك متوجهٌ إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله تعالى، وإيرادُ الفعل على صيغة المجهولِ لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعلٌ أو لتوجيه الإنكارِ إلى كون التنزيلِ عليه لا إلى استناده إلى الفاعل.