خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٧
مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ
٨
-الحجر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لوْ مَا تَأْتِينَا } كلمة لو عند تركّبها مع (ما) تفيد ما تفيده عند تركبها مع (لا) من معنى امتناعِ الشيء لوجود غيرِه ومعنى التحضيض، خلا أنه عند إرادتِه لا يليها إلا فعلٌ ظاهرٌ أو مضمرٌ، وعند إرادةِ المعنى الأول لا يليها إلا اسمٌ ظاهرٌ أو مقدر عند البصريـين، والمرادُ هٰهنا هو الثاني أي هلا تأتينا { بِٱلْمَلَـئِكَةِ } يشهدون بصحة نبوتِك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى: { { لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [الفرقان: 7] أو يعاقبونا على التكذيب كما تأتي الأممُ المكذّبة لرسلهم { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } في دعواك، فإن قدرةَ الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه، وكذا احتياجُك إليه في تمشية أمرِك فإنا لا نصدقك بدون ذلك، أو كنت من جملة تلك الرسلِ الصادقين الذين عُذّبت أممهم المكذبة لهم.

{ مَا نُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل، وقرىء من الإنزال، وقرىء تُنَزّل مضارعاً من التنزيل على صيغة البناء للمفعول، ومن التنزّل بحذف إحدى التاءين، وماضياً منه ومن التنزيل ومن الثلاثي، وهو كلامٌ مسوق إلى النبـي صلى الله عليه وسلم جواباً لهم عن مقالتهم المَحْكية ورداً لاقتراحهم الباطلِ، ولشدة استدعاءِ ذلك للجواب قُدّم ردُّه على ما هو جوابٌ عن أولها أعني قوله: { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ } [الحجر: 9] الآية، كما فُعل في قوله تعالى: { { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } [هود: 33] فإنه مع كونه جواباً عن قولهم: { { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } [هود: 32] قُدّم على قوله: { { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } [هود: 34] الآية، مع كونه جواباً عن أول كلامِهم الذي هو قولُهم: { { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا } [هود: 32] لِما ذُكر من شدة اقتضائِه للجواب وليكونَ أحدُ الجوابـين متصلاً بالسؤال، وفي العكس يلزَم انفصالُ كلَ من الجوابـين عن سؤاله، والعدولُ عن تطبـيقه لظاهر كلامِهم بصدد الاقتراحِ وهو أن يقال: ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطأوا في التعبـير حسبما أخطأوا في الاقتراح، وأن الملائكةَ لعلوّ رتبتهم أعلى من أن يُنسَبَ إليهم مطلقُ الإتيان الشاملِ للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها، بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصِدُ حركاتهم أولئك الكفرةَ وأن يدخلوا تحت ملكوتِ أحدٍ من البشر، وإنما الذي يليق بشأنهم النزولُ من مقامهم العالي وكونُ ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } أي ملتبساً بالوجه الذي يحِق ملابسةُ التنزيل به مما تقتضيه الحكمةُ وتجري به السنةُ الإلٰهية كقوله سبحانه: { { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ } [الحجر: 85] والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هُمْ ومنزلتُهم في الحقارة والهوانِ منزلتُهم، مما لا يكاد يدخل تحت الصِّحة والحِكمة أصلاً، فإن ذلك من باب التنزيلِ بالوحي الذي لا يكاد يُفتح على غير الأنبـياء الكرام من أفراد كُمَّلِ المؤمنين، فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئامِ؟ وإنما الذي يدخُل في حقهم تحت الحكمةِ في الجملة هو التنزيلُ للتعذيب والاستئصالِ كما فُعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة.

{ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } جزاءُ الشرط مقدّرٌ وفيه إيذانٌ بإنتاج مقدِّماتهم لنقيض مطلوبِهم كما في قوله تعالى: { { وَأَذّن لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَـٰفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 76] قال صاحب النظم: لفظةُ إذن مركبةٌ من إذ وهو اسمٌ بمعنى الحين، تقول: أتيتُك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضُمّ إليه أنْ فصار إذْ أن ثم استثقلوا الهمزةَ فحذفوها، فمجيءُ لفظة أن دليلٌ على إضمار فعلٍ بعدها والتقدير وما كانوا ـ إذ أَنْ كان ما طلبوه ـ منظَرين، والمعنى لو نزّلناهم ما كانوا مؤخَّرين كدأب سائرِ الأممِ المكذبة المستهزِئة، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلمُ القضاء بتأخير عذابِهم إلى يوم القيامة حسبما أُجمل في قوله تعالى: { { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ } [الحجر: 3] الخ، وحال حائلُ الحكمةِ بـينهم وبـين استئصالِهم لتعلق العلمِ والإرادة بازديادهم عذاباً بإيمان بعضِ ذراريهم، وأما نظمُ إيمانِ بعضهم في سِمْط الحكمةِ فيأباه مقامُ بـيانِ تماديهم في الكفر والفساد ولَجاجِهم في المكابرة والعِناد، هذا هو الذي يستدعيه إعجازُ التنزيلِ الجليل، وأما ما قيل في تعليل عدمِ موافقةِ التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدّقين عن اضطرار، أو أنه لا حكمةَ في أن تأتيَكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لَبساً، أو أن إنزالَ الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصولِ الفائدةِ بإنزالهم، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفارِ أنه لو أَنزل إليهم الملائكةَ لبقُوا مُصرّين على كفرهم فيصير إنزالُهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقًّا، فمع إخلال كلَ من ذلك بقطعية الباقي لا يلزَم من فرض وقوعِ شيءٍ من ذلك تعجيلُ العذاب الذي يفيده قوله تعالى: { وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } هذا على تقدير كونِ اقتراحِهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة، أما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى إنا ما نُنزل الملائكةَ للتعذيب إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق الذي تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المصلحة حتماً، بحيث لا محيد عنه، ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيلُ ملتبساً بمقتضى الحِكمة الموجبةِ لتأخير عذابِهم إلى يوم القيامة، لا رفقاً بهم بل تشديداً عليهم كما مر من قبل، وحيث كان في نسبة تنزيلِهم للتعذيب إلى عدم موافقتِه الحكمةَ نوعُ إيهامٍ لعدم استحقاقِهم التعذيب عُدِل عما يقتضيه الظاهرُ إلى ما عليه النظم الكريم، فكأنه قيل: لو نزلناهم ما كانوا منظَرين وذلك غيرُ موافقٍ للحكمة الموجِّهة لتأخير عذابِهم لتشديد عقابِهم، وقيل: المرادُ بالحق الوحيُ، وقيل: العذاب فتدبر.