خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ
١٠٩
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٠
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١١١
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَـٰسِرونَ } إذْ ضيّعوا أعمارَهم وصرفوها إلى ما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد.

{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } إلى دار الإسلام وهم عمارٌ وأصحابُه رضي الله عنهم، أي لهم بالولاية والنصرِ لا عليهم كما يوجبه ظاهرُ أعمالِهم السابقةِ، فالجارُّ والمجرور خبرٌ لإن ويجوز أن يكون خبرُها محذوفاً فالدلالة الخبرِ الآتي عليه ويجوز أن يكون ذلك خبراً لها وتكون إن الثانيةُ تأكيداً للأولى، وثم للدِلالة على تباعد رتبةِ حالهم التي يفيدها الاستثناءُ من مجرد الخروجِ عن حكم الغضب والعذابِ بطريق الإشارة، لا عن رتبة حالِ الكفرة { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } أي عُذّبوا على الارتداد وتلفظوا بما يرضيهم مع اطمئنان قلوبِهم بالإيمان، وقرىء على بناء الفاعل أي عذَّبوا المؤمنين كالحضْرمي أكره مولاه جبراً حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا { ثُمَّ جَـٰهَدُواْ } في سبـيل الله { وَصَبَرُواْ } على مشاقّ الجهاد { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد المهاجِرةَ والجهاد والصبرِ، فهو تصريحٌ بما أشعر به بناءُ الحُكم على الموصول من علّية الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبـيان عدمِ إخلالِ ذلك بالحكم { لَغَفُورٌ } لما فعلوا من قبلُ { رَّحِيمٌ } يُنعم عليهم مجازاةً على ما صنعوا من بعد، وفي التعرض لعنوان الربوبـيةِ في الموضعين إيماءٌ إلى علة الحكمِ، وفي إضافة الربِّ إلى ضميره عليه السلام مع ظهور الأثرِ في الطائفة المذكورة إظهارٌ لكمال اللطفِ به عليه السلام وإشعارٌ بأن إفاضة آثارِ الربوبـيةِ عليهم من المغفرة والرحمةِ بواسطته عليه السلام ولكونهم أتباعاً له.

{ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ } منصوب برحيم وما رُتِّب عليه، أو باذكر وهو يوم القيامة يوم يقوم الناسُ لرب العالمين { تُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا } عن ذاتها تسعى في خلاصها بالاعتذار لا يُهِمّها شأنُ غيرها فتقول نفسي نفسي { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ } أي تعطىٰ وافياً كاملاً { مَّا عَمِلَتْ } أي جزاءَ ما عملت بطريق إطلاقِ اسمِ السبب على المسبَّب إشعاراً بكمال الاتصالِ بـين الأجزية والأعمال، وإيثارُ الإظهار على الإضمار لزيادة التقريرِ وللإيذان باختلاف وقتي المجادلةِ والتوفيةِ وإن كانتا في يوم واحد { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا يُنقَصون أجورَهم أو لا يعاقبون بغير موجب ولا يُزاد في عقابهم على ذنوبهم.

{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } قيل: ضرْبُ المثل صنعُه واعتمالُه، وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة، ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ وإنما عُدّيَ لاثنين لتضمينه معنى الجعْل، وتأخيرُ قريةً مع كونها مفعولاً أولاً لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بـينها وبـين صفتِها وما يترتب عليها، إذ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها، ولأن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقباً لوروده تشوقاً لا سيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه، فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ، والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين، وإما مقدرةٌ أي جعلها مثلاً لأهل مكةَ خاصةً، أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ودخل فيهم أهلُ مكةَ دخولاً أولياً { كَانَتْ ءامِنَةً } ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف { مُّطْمَئِنَّةً } لا يُزعج أهلَها مزعجٌ { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } أقواتُ أهلها، صفةٌ ثانية لقريةً وتغيـيرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ { رَغَدًا } واسعاً { مّن كُلّ مَكَانٍ } من نواحيها.

{ فَكَفَرَتْ } أي كفرَ أهلُها { بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } أي بنِعَمه، جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدِرع وأدرُع، أو جمع نُعْم كبؤس وأبؤس، والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ، وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمةٍ قليلة حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ } أي أذاق أهلها { لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس فاستُعير له اسمُه وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئةِ عن شدة الإصابةِ بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التحرير، فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ كقول كثيِّر: [الكامل]

غمْرُ الرداءِ إذا تبسم ضاحكاغلقت لضحكته رقابُ المال

فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماءِ الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير جرى مجرى الحقيقةِ فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريداً. أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم تشبـيهَ معقولٍ بمحسوس فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً، وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشىءِ من فقد الرزق بجامع الكراهة، فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقةُ المستعارة لإيصال الضارِّ المنبئةُ عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة، وتقديمُ الجوعِ الناشىء مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة أو لمراعاةٍ بـينها وبـين إتيان الرزقِ، وقد قرىء بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضاً عطفاً على المضاف، أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف وأصله ولباسَ الخوف { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } فيما قبلُ أو على وجه الاستمرار وهو الكفرانُ المذكور أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقاً للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة، وفي صيغة الصنعة إيذانٌ بأن كفرانَ النعمة صار صنعةً راسخةً لهم وسنةً مسلوكة.