خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣
خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } بـيانٌ لتحتم التوحيدِ حسبما نُبّه عليه تنبـيهاً إجمالياً ببـيان تقدّس جنابِ الكبرياءِ وتعاليه عن أن يحوم حوله شائبةُ أن يشاركه شيءٌ في شيء، وإيذانٌ بأنه دينٌ أجمع عليه جمهورُ الأنبـياءِ عليهم الصلاة والسلام وأُمروا بدعوة الناسِ إليه مع الإشارة إلى سر البعثةِ والتشريعِ وكيفية إلقاءِ الوحي، والتنبـيهِ على طريق علمِ الرسول عليه الصلاة والسلام بإتيان ما أوعدهم به وباقترابه إزاحةً لاستبعادهم اختصاصَه عليه الصلاة والسلام بذلك، وإظهاراً لبُطلان رأيهم في الاستعجال والتكذيب، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للإشعار بأن ذلك عادةٌ مستمرةٌ له سبحانه، والمرادُ بالملائكة إما جبريلُ عليه السلام، قال الواحدي: يسمَّى الواحدُ بالجمع إذا كان رئيساً أو هو ومَنْ معه من حفَظَة الوحي بأمر الله تعالى، وقرىء يُنْزِل من الإنزال وتَنَزَّلُ بحذف إحدى التاءين وعلى صيغة المبني للمفعول من التنزيل { بِٱلْرُّوحِ } أي بالوحي الذي من جملته القرآنُ على نهج الاستعارةِ، فإنه يحيـي القلوبَ الميتة بالجهل، أو يقوم في الدين مقامَ الروح في الجسد، والباء متعلقةٌ بالفعل أو بما هو حالٌ من مفعوله أي ملتبسين بالروح { مِنْ أَمْرِهِ } بـيان للروح الذي أريد به الوحي، فإنه أمرٌ بالخير أو حال منه أي حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منه، أو صفةٌ له على رأي من جوّز حذفَ الموصول مع بعضِ صلته أي بالروح الكائن من أمره الناشىءِ منه، أو متعلقٌ بـينزّل ومِنْ للسببـية كالباء مثلُ (ما) في قوله تعالى: { { مّمَّا خَطِيئَـٰتِهِمْ } [نوح، الآية 25] أي ينزلهم بأمره { عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي ينزِّلَهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهّلهم لذلك { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدلٌ من الروح، أي ينزّلهم ملتبسين بأن أنذِروا أي بهذا القول، والمخاطَبون به الأنبـياءُ الذين نزلت الملائكةُ عليهم، والآمرُ هو الله سبحانه والملائكةُ نَقَلةٌ للأمر كما يُشعر به الباء في المبدَل منه، و(أنْ) إما مخففةٌ من أنّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ، أي ينزلهم ملتبسين بأن الشأنَ أقول لكم: أنذِروا، أو مفسّرةٌ على أن تنزيلَ الملائكة بالوحي فيه معنى القولِ، كأنه قيل: يقول بواسطة الملائكةِ لمن يشاء من عباده: أنذروا فلا محل لها من الإعراب، أو مصدريةٌ لجواز كون صلتِها إنشائيةً كما في قوله تعالى: { { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } [يونس، الآية 105] حسبما ذكر في أوائل سورة هودٍ فمحلُّها الجرُّ على البدلية أيضاً، والإنذارُ الإعلام خلا أنه مختصٌّ بإعلام المحذورِ من نذر بالشيء إذا علمه فحذِرَه، وأنذره بالأمر إنذاراً أي أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كذا في القاموس أي أعلِموا الناس { أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } فالضمير للشأن، ومدارُ وضعِه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المغنيةِ عن التصريح به، وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ من أول الأمر بفخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرٍ له في الذهن، فإن الضميرَ لا يفهم منه ابتداءً إلا شأنٌ مبهمٌ له خطر، فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه مترقباً فيتمكن لديه عند وروده فضلُ تمكن، كأنه قيل: أنذروا أن الشأنَ الخطير هذا، وإنباءُ مضمونِه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصافُ المنذَرين بما يضادُّه من الإشراك وذلك كافٍ في كون إعلامِه إنذاراً، وقوله سبحانه: { فَٱتَّقُونِ } خطابٌ للمستعجِلين على طريقة الالتفاتِ، والفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادتِه تعالى بتنزيل الملائكةِ على الأنبـياء عليهم السلام وأمرِهم بأن ينذِروا الناسِ أنه لا شريك له في الألوهية، فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرةِ ما ينافيه من الإشراك وفروعِه التي من جملتها الاستعجالُ والاستهزاءُ. وبعد تمهيدِ الدليل السمعيِّ للتوحيد شُرِع في تحرير الأدلة العقلية فقيل:

{ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ } أي أوجدهما على ما هما عليه من الوجه الفائق والنمطِ اللائق { تَعَالَى } وتقدّس بذاته لا سيما بأفعاله التي من جملتها إبداعُ هذين المخلوقين { عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن إشراكهم المعهودِ أو عن شركة ما يشركونه به من الباطل الذي لا يُبدىء ولا يعيد، وبعد ما نبّه على صنعه الكليِّ المنطوي على تفاصيل مخلوقاتِه شرَع في تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ } أي هذا النوعَ غيرَ الفرد الأول منه { مِن نُّطْفَةٍ } جماد لا حسَّ له ولا حَراكَ، سيالٍ لا يحفظ شكلاً ولا وضعاً { فَإِذَا هُوَ } بعد الخلق { خَصِيمٌ } مِنطيقٌ مجادِلٌ عن نفسه مكافِحٌ للخصوم { مُّبِينٌ } لحجته لقِنٌ بها، وهذا أنسبُ بمقام الامتنانِ بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدتِه، أو مخاصمٌ لخالقه منكِرٌ له قائلٌ: { { مَن يُحييِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ } [يس: 78] وهذا أنسبُ بمقام تعداد هَناتِ الكفرة. روي أن أُبـيَّ بنَ خلفٍ الجُمَحي أتى النبـيَّ عليه السلام بعظم رميم فقال: يا محمد أترى الله تعالى يحيـي هذا بعد ما قد رمّ فنزلت { وَٱلأنْعَـٰم } وهي الأزواجُ الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعَزِ، وانتصابُها بمضمر يفسره قوله تعالى: { خَلَقَهَا } أو بالعطف على الإنسان، وما بعده بـيانُ ما خُلق لأجله والذي بعده تفصيلٌ لذلك، وقوله تعالى: { لَكُمْ } إما متعلقٌ بخلَقها، وقوله: { فِيهَا } خبرٌ مقدم، وقوله: { دِفْء } مبتدأٌ وهو ما يُدفأ به فيقي من البرد، والجملةُ حالٌ من المفعول أو الظرفُ الأول خبرٌ للمبتدأ المذكور، وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة { وَمَنَـٰفِعُ } هي دَرّها ورُكوبها وحملُها والحِراثة بها وغيرُ ذلك، وإنما عبّر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم، وتقديمُ الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقي إلى الأعلى { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي تأكُلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغيرِ ذلك، وتغيـيرُ النظم للإيماء إلى أنها لا تبقىٰ عند الأكل كما في السابق واللاحقِ، فإن الدفءَ والمنافعَ والجَمال يحصل منها وهي باقيةٌ على حالها، ولذلك جُعلت محالَّ لها بخلاف الأكل، وتقديمُ الظرف للإيذان بأن الأكلَ منها هو المعتادُ المعتمدُ في المعاش لأن الأكلَ مما عداها من الدجاج والبط وصيد البرِّ والبحرِ من قبـيل التفكّه مع أن فيه مراعاةً للفواصل، ويحتمل أن يكون معنى الأكلِ منها أكلَ ما يحصل بسببها فإن الحبوبَ والثمارَ المأكولة تُكتسب بإكراء الإبلِ وبإثمار نِتاجها وألبانها وجلودها.