خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٠
وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٦١
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ } ممن ذكرت قبائحُهم { مَثَلُ ٱلسَّوْء } صفةُ السَّوْء الذي هو كالمثَل في القبح وهي الحاجةُ إلى الولد ليقوم مقامَه عند موتهم، وإيثارُ الذكور للاستظهار بهم ووأدُ البنات لدفع العار، وخشيةُ الإملاق المنادي كلَّ ذلك بالعجز والقصورِ والشحِّ البالغ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بأن مدارَ اتصافِهم بتلك القبائح هو الكفرُ بالآخرة { وَللَّهِ } سبحانه وتعالى { ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } أي الصفةُ العجيبةُ الشأنِ التي هي مثلٌ في العلو مطلقاً، وهو الوجوبُ الذاتيُّ والغِنى المطلقُ والجودُ الواسعُ والنزاهةُ عن صفات المخلوقين، ويدخل فيه علوُّه تعالى عما قالوه علواً كبـيراً { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } المنفردُ بكمال القدرة لا سيما على مؤاخذتهم بذنوبهم { ٱلْحَكِيمُ } الذي يفعل كلَّ ما يفعل بمقتضى الحكمةِ البالغةِ وهذا أيضاً من جملة صفاتِه العجيبة تعالى.

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ } الكفارَ { بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما عُدّد من قبائحهم، وهذا تصريحٌ بما أفاده قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وإيذانٌ بأن ما أتَوْه من القبائح قد تناهىٰ إلى أمد لا غايةَ وراءَه { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } على الأرض المدلولِ عليها بالناس وبقوله تعالى: { مِن دَابَّةٍ } أي ما ترك عليها شيئاً من دابة قطُّ بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلمِ الظالمين كقوله تعالى: { { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال: 25] وعن أبـي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضُرُّ إلا نفسَه فقال: «بلى والله حتى إن الحُبارَى لتموت في وَكرها بظلم الظالم». وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «كاد الجُعَلُ يهلِك في جُحره بذنب ابن آدمَ أو من دابة ظالمة» وقيل: لو أَهْلك الآباءَ لم يكن الأبناءُ، فيلزم أن لا يكون في الأرض دابةٌ لِما أنها مخلوقةٌ لمنافعِ البشر لقوله سبحانه: { { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة، الآية 29] { وَلَـٰكِنِ } لا يؤاخذهم بذلك بل { يُؤَخِرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا ويكثُرَ عذابُهم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } المسمّى { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجلِ أي لا يتأخرون، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له { سَاعَة } فذّةً، وهي مثَلٌ في قلة المدة { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي لا يتقدمون، وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدامُ عند مجيء الأجلِ مبالغةً في بـيان عدمِ الاستئخارِ بنظمه في سلك ما يمتنع، كما في قوله تعالى: { { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [النساء: 18] فإن من مات كافراً ـ مع أنه لا توبةَ له رأساً ـ قد نُظم في سِمْطِ من لم تُقبل توبته للإيذان بأنهما سيان في ذلك وقد مر في تفسير سورة يونس.

{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ } أي يُثْبتون له سبحانه وينسُبون إليه في زعمهم { مَا يَكْرَهُونَ } لأنفسهم مما ذكر، وهو تكريرٌ لما سبق، تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى: { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } العاقبةَ الحسنى عند الله تعالى كقوله: { { وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَىٰ رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت، الآية 50] وقرىء الكُذُبُ وهو جمع الكَذوب على أنه صفةُ الألسنة { لاَ جَرَمَ } رد لكلامهم ذلك وإثباتٌ لنقيضه أي حقاً { أَنَّ لَهُمْ } مكان ما أمّلوا من الحسنى { ٱلنَّار } التي ليس وراءَ عذابها عذابٌ وهي عَلَمٌ في السُّوآى { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } أي مقدَّمون إليها من أفرطتُه أي قدّمتُه في طلب الماء، وقيل: مَنْسيّون من أفرطتُ فلاناً خلفي إذا خلّفتُه ونسِيتُه، وقرىء بالتشديد وفتح الراء من فرَّطتُه في طلب الماء، وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات، وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونانِ حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه.