خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٩٤
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٩٥
مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٦
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } تصريحٌ بالنهي عنه بعد التضمين تأكيداً ومبالغةً في بـيان قبحِ المنهيِّ عنه وتمهيداً لقوله سبحانه: { فَتَزِلَّ قَدَمٌ } عن مَحَجّة الحق { بَعْدَ ثُبُوتِهَا } عليها ورسوخِها فيها بالإيمان، وإفرادُ القدم وتنكيرُها للإيذان بأن زلَلَ قدمٍ واحدة ـ أيَّ قدمٍ كانت عزّت أو هانت ـ محذورٌ عظيم فكيف بأقدام كثيرة { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوء } أي العذابَ الدنيوي { بِمَا صَدَدتُّمْ } بصدودكم أو بصدّكم غيرَكم { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } الذين ينتظم الوفاءَ بالعهود والأيمان، فإن من نقض البَـيعةَ وارتدّ جَعل ذلك سنةً لغيره { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.

{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ } أي لا تأخذوا بمقابلة عهدِه تعالى وبَـيعةِ رسوله عليه السلام أو آياتِه الناطقة بإيجاب المحافظةِ على العهود والأيمان { ثَمَناً قَلِيلاً } أي لا تستبدلوا بها عرَضاً يسيراً وهو ما كانت قريشٌ يعِدّون ضعفةَ المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حُطام الدنيا { إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ } عز وجل من النصر والتنعيم والثوابِ الأخرويّ { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } مما يعِدونكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إن كنتم من أهل العلمِ والتميـيزِ، وهو تعليلٌ للنهي على طريقة التحقيقِ كما أن قوله تعالى: { مَا عِندَكُمْ } تعليلٌ للخيرية بطريق الاستئنافِ أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل بل الدنيا وما فيها جميعاً { يَنفَدُ } وإن جمّ عددُه، وينقضي وإن طال أمدُه { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } من خزائن رحمتِه الدنيوية والأخروية { بَاقٍ } لا نفادَ له، أما الأخرويةُ فظاهرةٌ وأما الدنيويةُ فحيث كانت موصولةً بالأخروية ومستتبِعةً لها فقد انتظمت في سِمْط الباقيات.

وفي إيثار الاسمِ على صيغة المضارعِ من الدلالة على الدوام ما لا يخفى، وقوله تعالى: { وَلَنَجْزِيَنَّ } بنون العظمة على طريقة الالتفاتِ تكريرُ الوعد المستفادِ من قوله تعالى: { إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } على نهج التوكيدِ القسميِّ مبالغةٌ في الحمل على الثبات في الدين، والالتفاتُ عما يقتضيه ظاهرُ الحال من أن يقال: ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون، للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعارِ بعليتها للجزاء أي والله لنجزين { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } على أذية المشركين ومشاقِّ الإسلام التي من جملتها الوفاءُ بالعهود والفقرُ، وقرىء بالياء من غير التفاتٍ { أَجْرَهُمْ } مفعولٌ ثانٍ لنجزين أي لنُعطِينّهم أجرَهم الخاصَّ بهم بمقابلة صبرِهم على ما مُنوا به من الأمور المذكورة { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكورِ، وإنما أضيف إليه الأحسنُ للإشعار بكمال حسنِه كما في قوله سبحانه: { { وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلأَخِرَةِ } [آل عمران، الآية 148] لا لإفادة قصرِ الجزاءِ على الأحسن منه دون الحسَن، فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد، لا سيما بعد قوله تعالى: { أَجْرَهُمْ } و{ لنجزينهم } بحسب أحسنِ أفرادِ أعمالِهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفردِ الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفردِ الأعلى منها من الأجر الجزيلِ لا أنا نُعطي الأجر بحسب أفرادِها المتفاوتةِ في مراتب الحسن بأن نجزيَ الحسنَ منها بالأجر الحسَنِ والأحسنَ بالأحسن. وفيه ما لا يخفى من العُهدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزَعٍ، ونظمِه في سلك الصبر الجميل، أو لنجزينهم بجزاءٍ أحسنَ من أعمالهم.

وأما التفسيرُ بما ترجح فعلُه من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركُه أيضاً كالمحرمات والمكروهات دلالةً على أن ذلك هو المدارُ للجزاء دون ما يستوي فعلُه وتركُه كالمباحات، فلا يساعده مقامُ الحثِّ على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنةِ المخصوصة والترغيبِ في تحصيل ثمراتها، بل التعرضُ لإخراج بعض أعمالِهم عن مدارية الجزاءِ من قبـيل تحجيرِ الرحمةِ الواسعة في مقام توسيعِ حِماها.