خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
١٧
مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
-الإسراء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا } أي وكثيراً ما أهلكنا { مّنَ ٱلْقُرُونِ } بـيانٌ لِكَم وتميـيزٌ له، والقَرنُ مدةٌ من الزمان يُخترَم فيها القومُ وهي عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ثمانون أو مائة، وقد أيِّد ذلك "بأنه عليه الصلاة والسلام دعا لرجل فقال: عِشْ قرناً فعاش مائة سنةٍ أو مائة وعشرين" { مِن بَعْدِ نُوحٍ } من بعد زمنه عليه الصلاة والسلام كعادٍ وثمودَ ومَنْ بعدهم ممن قُصّت أحوالُهم في القرآن العظيم ومَنْ لم تُقَصَّ، وعدمُ نظمِ قومه عليه الصلاة والسلام في تلك القرون المهلَكة لظهور أمرِهم، على أن ذكره عليه الصلاة والسلام رمزٌ إلى ذكرهم { وَكَفَىٰ بِرَبّكَ } أي كفى ربُّك { بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيرًا } يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها، وتقديمُ الخبـير لتقدم متعلَّقِه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادي الأعمالِ الظاهرةِ أو لعمومه حيث يتعلق بغير المُبصَرات أيضاً. وفيه إشارةٌ إلى أن البعثَ والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلمِ بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصلٌ قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزامِ الحُجة من كل وجه.

{ مَن كَانَ يُرِيدُ } بأعماله التي يعملها سواءٌ كان ترتُّبُ المراد عليها بطريق الجزاءِ كأعمال البِرّ أو بطريق ترتبِ المعلولات على العلل كالأسباب، أو بأعمال الآخرة فالمرادُ بالمريد على الأول الكفرةُ وأكثرُ الفسقة، وعلى الثاني أهلُ الرياء والنفاق والمهاجِرُ للدنيا والمجاهدُ لمحض الغنيمة { ٱلْعَاجِلَةَ } فقط من غير أن يريد معها الآخرةَ كما ينبىء عنها الاستمرارُ المستفادُ من زيادة كان هٰهنا مع الاقتصار على مطلق الإرادةِ في قسيمه، والمرادُ بالعاجلة الدارُ الدنيا وبإرادتها إرادةُ ما فيها من فنون مطالبِها كقوله تعالى: { { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا } [الشورى: 20] ويجوز أن يراد الحياةُ العاجلة كقوله عز وجل: { { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [هود، الآية 15] لكن الأولَ أنسبُ بقوله: { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا } أي في تلك العاجلةِ فإن الحياةَ واستمرارها من جملة ما عُجِّل له، فالأنسبُ بذلك كلمةُ من كما في قوله تعالى: { { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [آل عمران، الآية 145] { مَا نَشَاء } أي ما نشاء تعجيلَه له من نعيمها لا كلَّ ما يريد { لِمَن نُّرِيدُ } تعجيلَ ما نشاء له وهو بدلٌ من الضمير في له بإعادة الجارِّ بدلَ البعض، فإنه راجعٌ إلى الموصول المنبىءِ عن الكثرة، وقرىء لمن يشاء على أن الضميرَ لله سبحانه، وقيل: هو لِمَن فيكون مخصوصاً بمن أراد به ذلك، وهو واحدٌ من الدهماء، وتقيـيدُ المعجَّل والمعجَّل له بما ذُكر من المشيئة والإرادة لما أن الحِكمةَ التي عليها يدور فلكُ التكوين لا تقتضي وصولَ كلِّ طالبٍ إلى مرامه ولا استيفاءَ كلِّ واصل لما يطلُبه بتمامه، وأما ما يتراءى من قوله تعالى: { { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [هود، الآية 15] من نيل كلِّ مؤمِّلٍ لجميع آماله ووصولِ كلِّ عاملٍ إلى نتيجة أعمالِه، فقد أُشير إلى تحقيق القولِ فيه في سورة هود بفضل الله تعالى { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ } مكان ما عجلنا له { جَهَنَّمَ } وما فيها من أصناف العذاب { يَصْلَـٰهَا } يدخُلها وهو حالٌ من الضمير المجرور أو من جهنم أو استئنافٌ { مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله تعالى، وقيل: الآية في المنافقين كانوا يُراؤون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضُهم إلا مساهمتَهم في الغنائم ونحوِها، ويأباه ما يقال إن السورةَ مكيةٌ سوى آياتٍ معينة.