خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
٢٣
وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
٢٤
-الإسراء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ } أي أمر أمراً مُبْرماً، وقرىء وأوصى ربُّك «ووصّى ربك» { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } أي بأن لا تعبدوا { إِلاَّ إِيَّاهُ } على أنّ «أنْ» مصدريةٌ ولا نافيةٌ أو أي لا تعبدوا على أنها مفسرةٌ ولا ناهيةٌ لأن العبادة غايةُ التعظيمِ فلا تحِقُّ إلا لمن له غايةُ العظمة ونهايةُ الإنعام وهو كالتفصيل للسعي للآخرة { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ } أي وبأن تُحسِنوا بهما أو وأحسنوا بهما { إِحْسَـٰناً } لأنهما السببُ الظاهرُ للوجود والتعيش { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } إما مركبةٌ من إن الشرطية وما المزيدةِ لتأكيدها ولذلك دخل الفعلَ نونُ التأكيد، ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وتقديمُه على المفعول مع أن حقه التأخرُ عنه للتشويق إلى وروده فإن مدارَ تضاعف الرعايةِ الإحسانُ وأحدُهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعولِ لئلا يطولَ الكلامُ به وبما عُطف عليه. وقرىء يبلغان فأحدُهما بدلٌ من ضمير التثنية وكلاهما عطفٌ عليه ولا سبـيل إلى جعل (كلاهما) تأكيداً للضمير، وتوحيدُ ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المرادِ فإن المقصودَ نهيُ كلِّ أحد عن تأفيف والديه ونهْرِهما، ولو قوبل الجمعُ بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المرام { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا } أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع { أُفّ } وهو صوتٌ ينبىء عن تضجر، أو اسمُ فعلٍ هو أتضجر، وقرىء بالكسر بلا تنوين وبالفتح والضم منوناً وغيرَ مُنوّن أي لا تتضجرْ بهما تستقذرُ منهما وتستثقل من مُؤَنهما وبهذا النهي يُفهم النهيُ عن سائر ما يؤذيهما بدلالة النصِّ، وقد خُص بالذكر بعضُه إظهاراً للاعتناء بشأنه فقيل: { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي لا تزجُرهما عما لا يعجبك بإغلاظ، قيل: النهيُ والنهرُ والنهْمُ أخواتٌ { وَقُل لَّهُمَا } بدلَ التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } ذا كرمِ أو هو وصفٌ له بوصف صاحبِه أي قولاً صادراً عن كرم ولطفٍ، وهو القولُ الجميلُ الذي يقتضيه حسنُ الأدب ويستدعيه النزولُ على المروءة مثلُ أن يقول: يا أباه ويا أماه، كدأب إبراهيمَ عليه السلام إذ قال لأبـيه: يا أبتِ مع ما به من الكفر، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوءِ الأدب وديدنُ الدُعّار. وسئل الفضيلُ بنُ عياض عن بر الوالدين فقال: أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل، وقيل: أن لا ترفعَ صوتَك عليهما ولا تنظُرَ إليهما شزْراً ولا يَرَيا منك مخالفةً في ظاهر ولا باطن وأن تترحّم عليهما ما عاشا وتدعوَ لهما إذا ماتا وتقومَ بخدمة أوِدّائِهما من بعدهما، فعن النبـي عليه الصلاة والسلام: " "إنَّ مِنْ أَبَرِّ البِرِّ أنْ يصلَ الرجلُ أهلَ ودِّ أبـيه" ".

{ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ } عبارةٌ عن إلانة الجانبِ والتواضعِ والتذلل لهما، فإن إعزازَهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل: واخفض لهما جناحَ الذليل أو جُعل لذله جَناحٌ كما جَعل لبـيدٌ في قوله: [الكامل]

وغداةِ ريحٍ قد كشفْت وقَرّةإذ أصبحت بـيد الشمالِ زمامُها

للقَرة زماماً وللشمال يداً تشبـيهاً له بطائر يخفض جناحَه لأفراخه تربـيةً لها وشفقةً عليها، وأما جعلُ خفض الجناحِ عبارةً عن ترك الطيران كما فعله القفالُ فلا يناسب المقام { مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } من فرْط رحمتِك وعطفِك عليهما ورِقّتك لافتقارهما اليوم إلى مَنْ كان أفقرَ خلق الله تعالى إليهما ولا تكتفِ برحمتك الفانية بل ادعُ الله لهما برحمته الواسعة الباقية { وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا } برحمتك الدنيوية والأخرويةِ التي من جملتها الهدايةُ إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرَهما { كَمَا رَبَّيَانِى } الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي رحمةً مثلَ تربـيتهما لي أو مثلَ رحمتهما لي على أن التربـيةَ رحمةٌ ويجوز أن يكون لهما الرحمةُ والتربـية معاً وقد ذُكر أحدُهما في أحد الجانبـين والآخرُ كما يلوح به التعرّضُ لعنوان الربوبـيةِ في مطلع الدعاء كأنه قيل: رب ارحمهما وربِّهما كما رحِماني وربّـياني { صَغِيرًا } ويجوز أن تكون الكافُ للتعليل أي لأجل تربـيتهما لي كقوله تعالى: { { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 198] ولقد بالغ عز وجل في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفَع الإحسانَ إليهما بتوحيده سبحانه ونظمَهما في سلك القضاءِ بهما معاً ثم ضيّق الأمرَ في باب مراعاتهما حتى لم يرخِّصْ في أدنى كلمةٍ تُفْلت من المتضجر مع ما له من موجبات الضجر ما لا يكاد يدخل تحت الحصر، وختمَها بأن جعل رحمتَه التي وسعت كلَّ شيء مُشْبَهةٌ بتربـيتهما. وعن النبـي عليه الصلاة والسلام: "رِضى الله في رضى الوالدين وسخطُه في سخطهما" وروي (يفعل البارُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل النارَ ويفعل العاقُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل الجنة) "وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبوَيَّ بلغا من الكِبَر أنى أَلي منهما ما وَلِيا مني في الصغر فهل قضيتُهما حقهما؟ قال: لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يُحبّان بقاءَك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما" وروي أن شيخاً أتى النبـي عليه الصلاة والسلام فقال: إن ابني هذا له مالٌ كثير وإنه لا ينفق عليَّ من ماله، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال: إن هذا الشيخَ قد أنشأ في ابنه أبـياتاً ما قُرع سمعٌ بمثلها فاستنشَدَها الشيخَ فقال: [الطويل]

غذَوتُك مولوداً ومُنْتُك يافعاتَعُلُّ بما أَجني عليك وتنهل
إذا ليلةٌ ضافتْك بالسُّقم لم أبِتلسُقمك إلا باكياً أتململ
كأني أنا المطروقُ دونك بالذيطُرِقَتْ به دوني وعينَي تهمُل
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التيإليها مدى ما كنتُ فيك أؤمل
جعلتَ جزائي غِلظةً وفظاظةكأنك أنت المنعمُ المتفضّل
فليتك إذْ لم ترْعَ حقَّ أُبوتيفعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعل

فغضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: " "أنتَ ومالُكَ لأبـيك" ".