خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً
٦
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً
٧
-الكهف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ } أي مُهلكٌ { نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِمْ } غماً ووجداً على فراقهم وقرىء بالإضافة { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } أي القرآنِ الذي عبّر عنه في صدر السورةِ بالكتاب، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه، وقرىء بأنْ المفتوحةِ أي لأن لم يؤمنوا، فإعمالُ باخعٌ بحمله على حكاية حالٍ ماضيةٍ لاستحضار الصورةِ كما في قوله عز وجل: { { بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } } [الكهف: 18] { أَسَفاً } مفعولٌ له لباخعٌ أي لِفَرْط الحزنِ والغضبِ أو حالٌ مما فيه الضمير أن متأسفاً عليهم، ويجوز حملُ النظمِ الكريم على الاستعارة التبعيةِ بجعل التشبـيهِ بـين أجزاءِ الطرفين لا بـين الهيئتين المنتزَعتين منهما كما في التمثيل، وقد مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى: { { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } } [البقرة: 7].

{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ } استئنافٌ وتعليلٌ لما في لعل من معنى الإشفاقِ، أي إنا جعلنا ما عليها ممن عدا مَنْ وُجّه إليه التكليفُ من الزخارف حيواناً كان أو نباتاً أو معدِناً كقوله تعالى: { { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29] { زِينَةً } مفعولٌ ثانٍ للجعل إن حُمل على معنى التصيـيرِ أو حالٌ إن حمل على معنى الإبداعِ، واللام في { لَهَا } إما متعلقةٌ بزينةً أو بمحذوف هو صفةٌ لها أي كائنةً لها أي ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظراً واستدلالاً، فإن الحياتِ والعقاربَ من حيث تذكيرُهما لعذاب الآخرة من قبـيل المنافِع بل كلُّ حادثٍ داخلٌ تحت الزينة من حيث دَلالتُه على وجود الصانعِ ووَحدتِه فإن الأزواجَ والأولادَ أيضاً من زينة الحياةِ الدنيا بل أعظمُها ولا يمنع ذلك كونُهم من جملة المكلفين فإنهم من جهة انتسابهم إلى أصحابهم داخلون تحت الزينةِ ومن جهة كونهم مكلفين داخلون تحت الابتلاء.

{ لِنَبْلُوَهُمْ } متعلقٌ بجعلنا أي جعلنا ما جعلنا لنعاملَهم معاملةَ من يختبرهم { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } فنجازيهم بالثواب والعقابِ حسبما تبـين المحسنُ من المسيء وامتازت طبقاتُ أفرادِ كلَ من الفريقين حسب امتيازِ مراتبِ علومِهم المرتبة على أنظارهم وتفاوتِ درجاتِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك كما قررناه في مطلع سورة هود، وأيُّ إما استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء وأحسنُ خبرُها والجملةُ في محل النصبِ معلِّقةٌ لفعل البلوىٰ لما فيه من معنى العلمِ باعتبار عاقبتِه كالسؤال والنظرِ، ولذلك أجريَ مَجراه بطريق التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعية، وإما موصولةٌ بمعنى الذي وأحسنُ خبرٌ لمبتدأ مضمر، والجملةُ صلةٌ لها وهي في حيز النصبِ بدلٌ من مفعول لنبلوَهم والتقديرُ لنبلوَ الذي هو أحسنُ عملاً فحينئذ يحتمل أن تكون الضمةُ في أيُّهم للبناء كما في قوله عز وجل: { { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً } [مريم، الآية 69] على أحد الأقوالِ لتحقق شرط البناءِ الذي هو الإضافةُ لفظاً وحذفُ صدرِ الصلةِ وأن تكون للإعراب لأن ما ذكر شرطٌ لجواز البناءِ لا لوجوبه، وحُسنُ العملِ الزهدُ فيها وعدمُ الاغترار بها والقناعةُ باليسير منها وصرفُها على ما ينبغي والتأملُ في شأنها وجعلُها ذريعةً إلى معرفة خالقِها والتمتعُ بها حسبما أذِن له الشرعُ وأداءُ حقوقها والشكرُ لها، لا اتخاذُها وسيلةً إلى الشهوات والأغراضِ الفاسدة كما يفعله الكفرةُ وأصحابُ الأهواء. وإيرادُ صيغةِ التفضيل مع أن الابتلأَ شاملٌ للفريقين باعتبار أعمالِهم المنقسمةِ إلى الحسن والقبـيح أيضاً لا إلى الحسن والأحسنِ فقط للإشعار بأن الغايةَ الأصلية للجعل المذكورِ إنما هو ظهورُ كمال إحسانِ المحسنين على ما حُقّق في تفسير قوله تعالى: { { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود، الآية 7].