خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
٦٣
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً
٦٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً
٦٥
-مريم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ } مبتدأٌ وخبرٌ جيء به لتعظيم شأنِ الجنةِ وتعيـينِ أهلِها، فإن ما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها وعلوِّ رتبتها { ٱلَّتِى نُورِثُ } أي نورثها { مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } أي نُبقيها عليهم بتقواهم ونمتّعهم بها كما نُبقي على الوارث مالَ مُورِّثه ونمتّعه به، والوِراثةُ أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تُعقَبُ بفسخ ولا استرجاعٍ ولا إبطالٍ، وقيل: يُورَّث المتقون من الجنة المساكنَ التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادةً في كرامتهم، وقرىء نورّث بالتشديد.

{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } (حكايةٌ لقول جبريلَ حين استبطأه رسولُ الله عليهما الصلاة والسلام لما سئل عن أصحاب الكهفِ وذي القرنين والروح، فلم يدرِ كيف يجيب ورجا أن يوحىٰ إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسةَ عشرَ فشق ذلك عليه مشقةً شديدة، وقال المشركون: وَدَّعَه ربُّه وقلاه ثم نزل ببـيان ذلك) وأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ وسورةَ الضحى، والتنزّل النزولُ على مَهل لأنه مطاوعٌ للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزولِ كما يطلق التنزيلُ على الإنزال، والمعنى وما ننزِل وقتاً غَبَّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمتُه، وقرىء وما يَتنزَّل بالياء والضمير للوحي { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ } وهو ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ننتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزّل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته.

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي تاركاً لك يعني أن عدمَ النزل لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغةٍ فيه، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعِه إياك كما زعمَتِ الكفرة، وفى إعادة اسمِ الربّ المُعربِ عن التبليغ إلى الكمال اللائقِ مضافاً إلى ضميره عليه السلام من تشريفه والإشعارِ بعلة الحكمِ ما لا يخفى، وقيل: أولُ الآية حكايةُ قولِ المتقين حين يدخُلون الجنة مخاطِباً بعضُهم بعضاً بطريق التبجّح والابتهاج، والمعنى وما نتنزّل الجنةَ إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالكُ الأمورِ كلِّها سالِفها ومُتَرقَّبِها وحاضرِها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضلِه وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } تقريرٌ لقولهم من جهة الله تعالى أي وما كان ناسياً لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها.

وقوله تعالى: { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } بـيانٌ لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن مَن بـيده ملكوتُ السموات والأرض وما بـينهما كيف يُتصوَّر أن يحوم حول ساحتِه سبحانه الغفلةُ والنسيانُ؟ وهو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من ربك، والفاء في قوله تعالى: { فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى ربَّ السمواتِ والأرض وما بـينهما، وقيل: من كونه تعالى غيرَ تارك له عليه السلام أو غيرَ ناس لأعمال العاملين، والمعنى: فحين عرفتَه تعالى بما ذُكر من الربوبـية الكاملةِ فاعبده الخ، فإن إيجابَ معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفتَ أنه تعالى لا ينساك أو لا ينسى أعمالَ العاملين كائناً مَنْ كان فأقبِلْ على عبادته واصطبرْ على مشاقّها ولا تحزن بإبطال الوحي وهُزْؤ الكفرةِ، فإنه يراقبك ويراعيك ويلطُف بك في الدنيا والآخرة. وتعديةُ الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله تعالى: { { وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } } [طه: 132] لتضمينه معنى الثباتِ للعبادة فيما تورِد عليه من الشدائد والمشاقّ، كقولك للمبارز: اصطبرُ لِقَرنك أي اثبُت له فيما يورِد عليك من شدائده { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } السمِيُّ الشريكُ في الاسم والظاهرُ أن يراد به هٰهنا الشريكُ في اسم خاص قد عُبِّر عنه تعالى بذلك وهو ربُّ السموات والأرض وما بـينهما، والمرادُ بإنكارُ العلم ونفيُه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجهٍ وآكَدِه، فالجملةُ تقريرٌ لما أفاده الفاء من علّية ربوبـيته العامةِ لوجوب عبادتِه بل لوجوب تخصّصها به تعالى ببـيان استقلالِه عز وجل بذلك الاسمِ وانتفاءِ إطلاقِه على الغير بالكلية حقاً أو باطلاً.

وقيل: المرادُ هو الشريكُ في الاسم الجليلِ فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسمّوا الصنم بالجلالة أصلاً، وقيل: هو الشريكُ في اسم الإلٰه والمرادُ بالتسمية التسميةُ على الحق، فالمعنى هل تعلم شيئاً يسمى بالاستحقاق إلٰهاً؟ وأما التسميةُ على الباطل فهي كلا تسميةٍ، فتقريرُ الجملة لوجوب العبادة حينئذ باعتبار ما في الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادةِ فتدبر.