خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٢١
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

[الحث على عبادة الله]

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } إثرَ ما ذكر الله تعالى من علو طبقة كتابه الكريم وتحزُّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرقٍ: مؤمنةٍ به محافظةٍ على ما فيه من الشرائع والأحكام. وكافرةٍ قد نبذتْه وراءَ ظهرِها بالمجاهرة والشقاق، وأخرى مذبذبةٍ بـينهما بالمخادعة والنفاق، ونعْتِ كل فرقةٍ منها بما لَها من النعوت والأحوال وبـين ما لهم من المصير والمآل - أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزاً لهم إلى الإصغاء وتوجيهاً لقلوبهم نحو التلقي، وجبراً لما في العبادة من الكُلفة بلذة الخطاب، فأمرهم كافةً بعبادته ونهاهم عن الإشراك به، و(يا) حرفٌ وضع لنداء البعيد، وقد ينادىٰ به القريبُ تنزيلاً له منزلةَ البعيد إما إجلالاً كما في قول الداعي: يا ألله ويا ربِّ، وهو أقربُ إليه من حبل الوريد استقصاراً لنفسه واستبعاداً لها من محافل الزُّلفىٰ ومنازلِ المقربـين، وإما تنبـيهاً على غفلته وسوءِ فهمِه وقد يُقصد به التنبـيهُ على أن ما يعقبُه أمرٌ خطير يُعتنىٰ بشأنه، و(أيُّ) اسمٌ مبهمٌ جعل وصلُه إلى نداء المعرف باللام لا على أنه المنادىٰ أصالةً بل على أنه صفةٌ موضحة له مُزيلة لإبهامه، والتُزم رفعُه مع انتصاب موصوفه محلاً إشعاراً بأنه المقصود بالنداء. وأُقحمَتْ بـينهما كلمةُ التنبـيه تأكيداً لمعنى النداء وتعويضاً عما يستحقه أي من المضاف إليه، ولِما ترى من استقلالِ هذه الطريقة بضروبٍ من أسباب المبالغةِ والتأكيد كثُر سلوكُها في التنزيل المجيد، كيف لا وكلُّ ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوبٌ جليلةٌ حقيقةٌ بأن تقشعِرَّ منها الجلودُ وتطمئنَّ بها القلوبُ الأبـية، ويتلَقَّوْها بآذانٍ واعية، وأكثرهم عنها غافلون، فاقتضى الحالُ المبالغةَ والتأكيدَ في الإيقاظ والتنبـيه والمرادُ بالناس كافةُ المكلفين الموجودين في ذلك العصر، لما أن الجموعَ وأسماءَها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناءِ منها والتأكيدِ بما يفيد العمومَ كما في قوله تعالى: { { فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحِجْر، الآية 30] واستدلالِ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعاً ذائعاً، وأما مَنْ عداهم ممن سيوجد منهم فغيرُ داخلين في خطاب المشافهة، وإنما دخولُهم تحت حُكْمِه لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم، ضرورةَ أن مقتضىٰ خطابه وأحكامِه شاملٌ للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة، ولا يَقدح في العموم ما رُوي عن علقمةَ والحسنِ البصري من أن كلَّ ما نزل فيه { يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [البقرة، الآيات: 21، 167] فهو مكي، إذ ليس من ضرورة نزولِه بمكة شرفها الله تعالى اختصاصُ حُكمِه بأهلها ولا من قضية اختصاصِه بهم اختصاصُه بالكفار، إذ لم يكن كلُّ أهلها حينئذٍ كفرةً، ولا ضيرَ في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمورَ به القدرُ المشترك الشاملُ لإنشاء العبادةِ والثباتِ عليها والزيادةِ فيها، مع أنها متكررة حسب تكررِ أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعني الإيمان لأن الأمرَ بها منتظِمٌ للأمر بما لا تتم إلا به وقد عُلم من الدين ضرورةً اشتراطُها به فإن أمرَ المحْدِث بالصلاة مستتبع للأمرِ بالتوضّي لا محالة.

وقد قيل: المراد بالعبادة ما يعُمّ أفعالَ القلبِ أيضاً لما أنها عبارةٌ عن غاية التذلُّلِ والخضوعِ. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كل ما ورد في القرآن من العبادات فمعناها التوحيد، وقيل معنى اعبدوا: وحِّدوا وأطيعوا، ولا شك في كون بعضٍ من الفِرْقتين الأخيرتين ممن لا يُجدي فيهم الإنذارُ بموجب النصِّ القاطعِ، لما أن الأمرَ لقطع الأعذار ليس فيه تكليفُهم بما ليس في وُسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلاً، إذ لا قطعَ لأحدٍ منهم بدخوله في حكم النص قطعاً، وورد النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا أن كونَهم كذلك لورود النص بذلك، فلا جبر أصلاً.

نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجهٌ لطيفٌ ستقف عليه عند قوله تعالى: { { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة، الآية 22] وإيراده تعالى بعنوان الربوبـية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبـين لتأكيد موجب الأمرِ بالإشعار بعلّيتها للعبادة { ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ } صفة أُجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل إثرَ التعليل وقد جُوِّز كونُها للتقيـيد والتوضيح بناءً على تخصيص الخطاب بالمشركين، وحملِ الربِّ على ما هو أعمُّ من الرب الحقيقي، والآلهة التي يسمونها أرباباً، والخلق إيجاد الشيء على تقديرٍ واستواءٍ، وأصله التقدير، يقال: خلق النعلَ أي قدَّرها وسواها بالمقياس، وقرىء خلقكم بإدغام القاف في الكاف { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } عطفٌ على الضمير المنصوب ومتممٌ لما قصد من التعظيم والتعليل، فإن خلقَ أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم، ومن ابتدائية متعلقةٌ بمحذوف أي كانوا من زمان قبلَ زمانكم، وقيل: خلقَهم من قبلِ خلقِكم فحُذف الخلقُ وأقيم الضميرُ مُقامَه، والمرادُ بهم مَنْ تقدّمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عمومِ الخطابِ بـيانُ شمولِ خلقِه تعالى للكل، وتخصيصُه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرضِ لخلقِ مَنْ عداهم من معاصريهم، وإخراجُ الجملةُ مُخرجَ الصلةِ التي حقُها أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصول عندهم أيضاً مع أنهم غيرُ معترفين بغاية الخلق وإن اعترفوا بنفسه كما ينطِق به قوله تعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف، الآية 87] للإيذان بأن خلقهم للتقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحدٍ إنكارُه، وقرىء وخلق مَنْ قبلَكم، وقرىء والذين مَنْ قبلكم بإقحام الموصول الثاني بـين الأول وصلته توكيداً كإقحام اللام بـين المضافين في لا أبا لك، أو بجعله موصوفاً بالظرف خبراً لمبتدأ محذوف، أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاءُ توقع أمرٍ مترددٍ بـين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول إما محبوبٍ فيسمَّىٰ ترجياً، أو مكروهٍ فيسمَّى إشفاقاً، وذلك المعنى قد يعتبر تحققُه بالفعل إما من جهة المتكلم كما في قولك: لعل الله يرحمني وهو الأصلُ الشائعُ في الاستعمال. لأن معانيَ الانشاءاتِ قائمةٌ به وإما من جهة المخاطب تنزيلاً له منزلةَ المتكلم في التلبّس التام بالكلام الجاري بـينهما، كما في قوله سبحانه: { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه، الآية 44] وقد يعتبر تحققُه بالقوة بضربٍ من التجوز إيذاناً بأن ذلك الأمرَ في نفسه مَئنّةٌ للتوقع متصفٌ بحيثية مصححةٍ له من غير أن يعتبر هناك توقعٌ بالفعل من متوقَعٍ أصلاً.

فإن روعِيَتْ في الآية الكريمة جهةُ المتكلم يستحيلُ إرادةُ ذلك المعنى لامتناع التوقعِ من علاّم الغيوب عز وجل فيُصار إما إلى الاستعارة بأن يُشبَّه طلبُه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنةً لها لتعاضُد أسبابها برجاء الراجي من المرجوَّ منه أمراً هيِّنَ الحصول في كون متعلَّقِ كلَ منهما متردداً بـين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول، فيستعار له كلمةُ لعل استعارةً تبعية حرفيةً للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقُربِ المطلوب من الوقوع، وإما إلى التمثيل بأن يلاحَظَ خلقُه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبُه إياها منهم وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها، ويُنتزَعُ من ذلك هيئةٌ فتُشبَّه بهيئةٍ منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئاً سهلَ المنال، فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية، فيكون هناك استعارةٌ تمثيلية قد صُرِّح من ألفاظها بما هو العُمدة في انتزاع الهيئةِ المشبَّه بها أعني كلمةَ الترجي، والباقي منويٌّ بألفاظٍ متخيَّلة بها يحصُل التركيبُ المعتبرُ في التمثيل كما مر مراراً، وأما جعلُ المشبهِ إرادتَه تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمرٌ مؤسَّـسٌ على قاعدة الاعتزال القائلة بجواز تخلّفِ المراد عن إرادتِه تعالى، فالجملةُ حالٌ إما من فاعل خلقكم أي طالباً منكم التقوى أو من مفعوله، وما عُطف عليه بطريق تغليبِ المخاطبـين على الغائبـين، لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوباً منكم التقوى، أو علةٌ له، فإن خلقَهم على تلك الحال في معنى خلقِهم لأجل التقوى، كأنه قيل: خلقكم لتتقوا، أو كي تتقوا، إما بناءً على تجويز تعليلِ أفعاله تعالى بأغراضٍ راجعةٍ إلى العباد كما ذهب إليه كثيرٌ من أهل السنة، وإما تنزيلاً لترتُّب الغاية على ما هي ثمرةٌ له منزلةَ ترتبِ الغرض على ما هو غرضٌ له، فإن استتباعَ أفعاله تعالى لغاياتِ ومصالحَ متقنةٍ جليلة من غير أن تكون هي علةٌ غائيةٌ لها بحيث لولاها لما أَقدَم عليها مما لا نزاع فيه، وتقيـيدُ خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عِلّيته للمأمورِ به وتأكيدِها، فإن إتيانَهم بما خُلقوا له أدخَلُ في الوجوب، وإيثارُ تتقون على تعبُدون مع موافقته لقوله تعالى: { { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات، الآية 56] للمبالغة في إيجابِ العبادةِ والتشديدِ في إلزامها، لما أن التقوىٰ قُصارى أمرِ العابد ومنتهى جُهده، فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزمَ، والإتيانُ به أهونَ.

وإن روعيت جهةُ المخاطبِ فلعل في معناها الحقيقي، والجملة حالٌ من ضمير اعبدوا، كأنه قيل: اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زُمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح.

[بـيان المراد بالتقوى]

على أن المرادَ بالتقوىٰ مرتبتُها الثالثة، التي هي التبتلُ إلى الله عز وجل بالكلية، والتنزُّه عن كل ما يشغل سرَّه عن مراقبته، وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافس فيها المتنافسون، وبالانتظام القدرَ المشتركَ بـين إنشائه والثباتِ عليه ليرتجيَه أربابُ هذه المرتبة وما دونها من مرتبتي التوقي عن العذاب المخلد، والتجنّبِ عن كل ما يُؤثم من فعل أو تركٍ كما مر في تفسير المتقين.

ولعل توسيطَ الحال من الفاعل بـين وصْفي المفعول لما في التقديم من فوات الإشعارِ بكون الوصفِ الأول معظمَ أحكام الربوبـية، وكونِه عريقاً في إيجاب العبادة وفي التأخير من زيادة طول الكلام، هذا على تقدير اعتبارِ تحققِ التوقعِ بالفعل، فأما إن اعتُبر تحققُه بالقوة فالجملةُ حال من مفعول خلقكم، وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وإياهم حالَ كونكم جميعاً بحيث يرجو منكم كلُّ راج أن تتقوا، فإنه سبحانه وتعالى لما بَرَأهم مستعدين للتقوى، جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية، كان حالهم بحيث يرجو منهم كلُّ راجٍ أن يتقوا لا محالة، وهذه الحالة مقارنةٌ لخلقهم وإن لم يتحقق الرجاء قطعاً.

واعلم أن الآية الكريمةَ مع كونها بعبارتها ناطقةً بوجوب توحيده تعالى وتحتّم عبادتِه على كافة الناس مرشدةٌ لهم بإشارتها إلى أن مطالعةَ الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاقِ مما يقضي بذلك قضاءً متقناً، وقد بـين فيها أولاً من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلقِ أسلافِهم لما أنه أقوى شهادةً وأظهرُ دلالة، ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم.