خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٣
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ } شروعٌ في بـيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصاً واشتراكاً وهو أمرٌ أُخرِجَ مُخرجَ الخبر مبالغةً في الحمل على تحقق مضمونِه ومعناه الندبُ أو الوجوبُ إن خص بمادة عدم قَبول الصبـيِّ ثديَ الغير أو فقدانِ الظِئْر أو عجزِ الوالدِ عن الاستئجار، والتعبـيرُ عنهن بالعنوان المذكور لِهزّ عَطفِهن نحوَ أولادِهن، والحكمُ عام للمطلقات وغيرهن، وقيل: خاصٌّ بهن إذ الكلامُ فيهن { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } التأكيدُ بصفة الكمال لبـيان أن التقديرَ تحقيقيٌّ لا تقريبـيٌّ مبني على المسامحة المعتادة { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } بـيانٌ لمن يُتوجّه إليه الحكمُ أي ذلك لمن أراد إتمامَ الرضاعة وفيه دلالةٌ على جواز النقص وقيل: اللام متعلقة بـيرضعن فإن الأبَ يجبُ عليه الإرضاعُ كالنفقة، والأمُ ترضع له كما يقال: أرضعت فلانةٌ لفلان ولدَه { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ } أي الوالد فإن الولد يولد له ويُنسَب إليه، وتغيـيرُ العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاعِ، ومؤونة المرضعة عليه { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } أجرةٌ لهن، واختلف في استئجار الأمِّ وهو غيرُ جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العدة، جائزٌ عند الشافعيرحمه الله { بِٱلْمَعْرُوفِ } حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعَه { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } تعليل لإيجاب المُؤَن بالمعروف أو تفسيرٌ للمعروف وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبدَ ما لا يُطيقُه وذلك لا ينافي إمكانه.

{ لاَ تُضَارَّ وٰلِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } تفصيلٌ لما قبله وتقريرٌ له، أي لا يكلِّف كلُّ واحد منهما الآخَرَ ما لا يُطيقه، ولا يُضارُّه بسبب ولده وقرىء لا تضارُّ بالرفع بدلاً من لا تكلف وأصله على القراءتين لا تضارِّ بالكسر على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضرّ والباء من صلته أي لا يُضَر الوالدان بالولد فيُفَرَّط في تعهده ويُقصَّر فيما ينبغي له وقرىء لا تضارّ بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يَضيرُه وإضافة الولد إلى كل منهما لاستعطافهما إليه وللتنبـيه على أنه جدير بأن ينفِقا على استصلاحه ولا ينبغي أن يُضَرَّا به أو يُتضارّا بسببه.

{ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ } عطف على قوله تعالى: { عَلَىٰ ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } [البقرة، الآية 233] الخ وما بـينهما تعليل أو تفسيرٌ معترِضٌ، والمرادُ به وارثُ الصبـيِّ ممن كان ذا رحِمٍ محرَمٍ منه وقيل: عَصَباتُه وقال الشافعيرحمه الله : هو وارثُ الأب وهو الصبـيُّ أي تُمأنُ المرضعةُ من ماله عند موت الأب، ولا نزاعَ فيه وإنما الكلام فيما إذا لم يكن للصبـيِّ مالٌ وقيل: الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام: "واجعله الوارثَ منا" وذلك إشارةٌ إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوةِ { فَإِنْ أَرَادَا } أي الوالدان { فِصَالاً } أي فِطاماً عن الرَّضاع قبل تمام الحولين، والتنكيرُ للإيذان بأنه فصال غيرُ معتاد { عَن تَرَاضٍ } متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهنُ أي صادراً عن تراض { مِنْهُمَا } أي من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضُرُّ بالولد بأن تمَلَّ المرأةُ الإرضاعِ ويبخَلَ الأبُ بإعطاء الأجرة { وَتَشَاوُرٍ } في شأن الولد وتفحُّصٍ عن أحواله وإجماعٍ منهما على استحقاقه للفِطام والتشاور من المَشورة وهي استخراجُ الرأي من شُرتُ العسلَ إذا استخرجته وتنكيرُهما للتفخيم { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك لما أن تراضِيَهما إنما يكون بعد استقرار رأيِهما أو اجتهادِهما على أن صلاحَ الولدِ في الفِطام وقلما يتفقان على الخطأ { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ } بـيانق لحكم عدم اتفاقِهما على الفطام، والالتفاتُ إلى خطاب الآباءِ لجذبهم إلى الامتثال بما أُمروا به { أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَـٰدَكُمْ } بحذف المفعول الأول استغناءً عنه أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم يقال: أرضعتِ المرأةُ الصبـيَّ واسترضعتُها إياه، وقيل: إنما يتعدَّى إلى الثاني بحرف الجرِّ يقال: استرضعتُ المرأةَ للصبـيِّ أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم فحُذف حرفُ الجر أيضاً كما في قوله تعالى: { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [المطففين، الآية 3] أي كالوا لهم { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي في الاسترضاع وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضِعَ للولد ويمنعَ الأمَّ من الإرضاع { إِذَا سَلَّمْتُم } أي إلى المراضع { مَّا ءَاتَيْتُم } أي ما أردتم إيتاءَه كما في قوله تعالى: { { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [النحل، الآية 98] وقرىء ما أَتيتم من أتى إليه إحساناً إذا فعله وقرىء ما أُوتيتم أي من جهة الله عز وجل كما في قوله تعالى: { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد، الآية 7] وفيه مزيدُ بعثٍ لهم إلى التسليم { بِٱلْمَعْرُوفِ } متعلقٌ بسلَّمتم أي بالوجه المتعارَفِ المستحسَن شرعاً، وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة المذكور عليه وليس التسليمُ بشرطٍ للصحة والجواز، بل هو ندبٌ إلى ما هو الأليقُ والأَولى فإن المراضعَ إذا أُعطين ما قُدّر لهن ناجزاً يداً بـيد كان ذلك أدخلَ في استصلاح شؤون الأطفال { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في شأن مراعاةِ الأحكامِ المذكورة { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم بذلك، وإظهارُ الاسم الجليلِ في موضع الإضمارِ لتربـية المهابة، وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى.