خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ } في سبـيل الله { مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم } أي شيئاً مما رزقناكموه على أن (ما) موصولة حُذف عائدُها، والتعرضُ لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما في قوله تعالى: { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد، الآية 7] والمرادُ به الإنفاقُ الواجبُ بدلالة ما بعده من الوعيد { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَـٰعَةٌ } كلمةُ (مِن) متعلقةٌ بما تعلقت به أختها ولا ضير فيه لاختلاف معنيـيهما فإن الأولىٰ تبعيضيةٌ وهذه لابتداء الغايةِ أي أنفِقوا بعضَ ما رزقناكم من قبل أنْ يأتيَ يومٌ لا تقدِرون على تلافي ما فرّطتم فيه إذ لا تبايُعَ فيه حتى تتبايعوا ما تُنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خُلةٌ حتى يسامحَكم به أخلاؤكم أو يُعينوكم عليه ولا شفاعةٌ إلا لمن أذِنَ له الرحمٰنُ ورضِيَ له قولاً حتى تتوسلوا بشفعاءَ يشفعون لكم في حطّ ما في ذمتكم، وإنما رُفعت الثلاثةُ مع قصد التعميم لأنها في التقدير جوابُ هل فيه بـيعٌ أو خلةٌ أو شفاعةٌ وقرىء بفتح الكل { وَٱلْكَـٰفِرُونَ } أي والتاركون للزكاة، وإيثارُه عليه للتغليظ والتهديد كما في قوله تعالى: { { وَمَن كَفَرَ } [آل عمران: 97، النور: 55، النمل: 40، لقمان: 12، 23] مكانَ ومَنْ لم يحُجّ وللإيذان بأن تركَ الزكاة من صفات الكفار قال تعالى: { { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ * ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ } [فصلت، الآية: 6 و7] { هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المالَ في غير موضعِه وصرفوه إلى غير وجهه { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المستحِقُّ للمعبودية لا غير، وفي إضمار خبرِ لا مِثلَ في الوجود أو يصِح أن يوجد - خلاف للنحاة معروفٌ { ٱلْحَىّ } الباقي الذي لا سبـيل عليه للموت والفناء، وهو إما خبرٌ ثانٍ أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدل من لا إلٰه إلا هو، أو بدلٌ من الله أو صفة له، ويعضُده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت { ٱلْقَيُّومُ } فَيْعولٌ، من قام بالأمر إذا حفِظه أي دائمُ القيام بتدبـير الخلق وحفظه، وقيل: هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السِنةُ ما يتقدم النومَ من الفتور قال عديُّ بنُ الرقاعِ العاملي: [الكامل]

وَسْنانُ أقصده النعاسُ فرنَّقتفي عينه سِنةٌ وليس بنائمِ

والنومُ حالةٌ تعرِضُ للحيوان من استرخاء أعصابِ الدماغِ من رُطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقِف المشاعرُ الظاهرةُ عن الإحساس رأساً والمرادُ بـيان انتفاءِ اعتراءِ شيءٍ منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة إلى القوة الإلٰهية فإنه بمعزل من مقامِ التنزيهِ فلا سبـيلَ إلى حمل النظم الكريمِ على طريقة المبالغةِ والترقي بناءً على أن القادرَ على دفع السِنة قد لا يقدرُ على دفع النوم القويِّ كما في قولك: فلانٌ يقِظٌ لا تغلِبُه سِنةٌ ولا نوم وإنما تأخيرُ النوم للمحافظة على ترتيب الوجودِ الخارجي، وتوسيطُ كلمةِ لا للتنصيص على شمول النفي لكلٍّ منهما كما في قوله عز وجل: { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } [التوبة، الآية: 121] وأما التعبـيرُ عن عدم الاعتراءِ والعُروضِ بعدم الأخذ فلمراعاة الواقع إذ عُروضُ السِنةِ والنومِ لمعروضهما إنما يكون بطريق الأخذِ والاستيلاء، وقيل: هو من باب التكميل، والجملةُ تأكيدٌ لما قبلها من كونه تعالى حياً قيّوماً فإن مَنْ يعتريه أحدُهما يكونُ موقوفَ الحياةِ قاصراً في الحفظ والتدبـيرِ وقيل: استئنافٌ مؤكدٌ لما سبق وقيل: حال مؤكدةٌ من الضمير المستكِّن في القيوم { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } تقريرٌ لقيّوميّته تعالى واحتجاجٌ به على تفرّده في الألوهية، والمرادُ بما فيهما ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلةِ فيهما ومن الأمور الخارجةِ عنهما المتمكّنة فيهما من العقلاء وغيرهم.

{ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } بـيانٌ لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحدٌ ليقدِر على تغيـير ما يريده شفاعةً وضراعةً فضلاً عن أن يُدافعه عِناداً أو مُناصبةً { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبِلُ المستقبَل ومستدبِرُ الماضي، أو أمورَ الدنيا أو أمورَ الآخرة أو بالعكس أو ما يُحسّونه، وما يعقِلونه أو ما يدركونه وما لا يدركونه، والضميرُ لما في السموٰات والأرض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما دل عليه من ذا الذي من الملائكة والأنبـياء عليهم الصلاة والسلام { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ } أي من معلوماته { إِلاَّ بِمَا شَاء } أن يعلموه، وعطفُه على ما قبله لما أنهما جميعاً دليلٌ على تفرّده تعالى بالعلم الذاتي التامِّ الدالِّ على وحدانيته { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } الكرسي ما يُجلَس عليه ولا يفضُلُ عن مقعد القاعد، وكأنه منسوبٌ إلى الكِرْس الذي هو المُلبَّد، وليس ثمةَ كُرسيٌّ ولا قاعدٌ ولا قُعود وإنما هو تمثيل لعظمةِ شأنه عز وجل وسَعة سلطانه وإحاطةِ علمه بالأشياء قاطبةً على طريقة قوله عز قائلاً: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوٰتُ مَطْوِيَّـٰتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر، الآية 67] وقيل: كرسيُّه مجازٌ عن علمِه أخذاً من كرسيِّ العالِم وقيل: عن مُلكه أخذاً من كرسيّ المُلك فإن الكرسيَّ كلما كان أعظمَ تكون عظمةُ القاعدِ أكثرَ وأوفرَ فعبر عن شمول علمه أو بسطةِ ملكه وسلطانِه بسَعة كرسيِّه وإحاطته بالأقطار العلوية والسفلية وقيل: هو جِسمٌ بـين يدي العرشِ محيطٌ بالسموٰات السبْع لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما السموٰاتُ السبعُ والأرضونَ السبعُ مع الكرسي إلا كحلقةٍ في فلاة وفضلُ العرشِ على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة" ولعله الفلَكُ الثامن، وعن الحسن البصريّ أنه العرش.

{ وَلاَ يَؤُودُهُ } أي لا يُثقِله ولا يشُقُّ عليه { حِفْظُهُمَا } أي حفظُ السموٰات والأرضِ وإنما لم يتعرَّضْ لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبعٌ لحفظه { وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ } المتعالي بذاته عن الأشباه والأنداد { ٱلْعَظِيمِ } الذي يُستحْقَر بالنسبة إليه كلُّ ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآيةِ الكريمةِ على أمهات المسائل الإلٰهية المتعلقةِ بالذات العليةِ والصفاتِ الجلية فإنها ناطقةٌ بأنه تعالى موجودٌ متفردٌ بالإلٰهية متصفٌ بالحياة واجبُ الوجود لذاته موجدٌ لغيره لما أن القيومَ هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره منزَّهٌ عن التحيز والحلول مبرأٌ عن التغير والفتور، لا مناسبةَ بـينه وبـين الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوسَ والأرواحَ مالكُ المُلك والملكوتِ ومُبدعُ الأصولِ والفروع، ذو البطش الشديد لا يشفَع عنده إلا من أذِن له فيه، العالِمُ وحده بجميع الأشياء جليِّها وخفيِّها كليِّها وجزئيِّها واسعُ الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يُملَكَ ويُقدَرَ عليه لا يشُقّ عليه شاقٌّ ولا يشغَلُه شأنٌ عن شأن، متعالٍ عما تناله الأوهامُ، عظيمٌ لا تُحدق به الأفهام، تفردت بفضائلَ رائقةٍ وخواصَّ فائقة خلت عنها أخواتُها قال صلى الله عليه وسلم: "إن أعظمَ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي. من قرأها بعث الله تعالى ملِكاً يكتُب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة" وقال عليه الصلاة والسلام: "ما قُرئت هذه الآيةُ في دار إلا هجرتْها الشياطينُ ثلاثين يوماً ولا يدخُلها ساحرٌ ولا ساحرةٌ أربعينَ ليلةً" وقال: "يا عليُّ علِّمْها ولدَك وأهلَك وجيرانَك فما نزلت آيةٌ أعظمُ منها" وقال عليه السلام: "مَنْ قرأ آيةَ الكرسيِّ في دُبُرِ كلِّ صلاة مكتوبةٍ لم يمنعْه من دخول الجنةِ إلا الموتُ ولا يواظِبُ عليها إلا صدِّيق أو عابدٌ ومن قرأها إذا أخذ مضجعَه أَمَّنَه الله تعالى على نفسه وجارِه، وجار جاره، والأبـياتِ حوله" وقال عليه الصلاة والسلام: "سيدُ البشر آدمُ وسيد العربِ محمدٌ ولا فخرٌ وسيدُ الفُرس سلمانُ وسيدُ الرومِ صُهيبٌ وسيدُ الحبشةِ بلالٌ وسيد الجبال الطورُ وسيدُ الأيام يومُ الجمعة وسيدُ القرآنِ سورةُ البقرة وسيدُ البقرةِ آيةُ الكرسي" وتخصيصُ سيادته صلى الله عليه وسلم للعرب بالذكر في أثناء تعدادِ السيادات الخاصةِ لا يدل على نفي ما دلت عليه الأخبارُ المستفيضةُ وانعقد عليه الإجماعُ من سيادته عليه السلام لجميع أفرادِ البشر.