خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
٥٣
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ } أي التوراةَ الجامعةَ بـين كونِها كتاباً وحُجةً تفرق بـين الحق والباطلِ وقيل: أريد بالفرقان معجزاتُه الفارقةُ بـين الحق والباطل في الدعوى أو بـين الكفر والإيمان، وقيل: الشرعُ الفارقُ بـين الحلالِ والحرام أو النصرُ الذي فرّق بـينه وبـين عدوِّه، كقوله تعالى: { { يوم الفُرقان } [الأنفال، الآية 41] يريد به يومَ بدر { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } بـيانٌ لكيفية وقوعِ العفو المذكورِ { يَـٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِٱتّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } أي معبوداً { فَتُوبُواْ } أي فاعزِموا على التوبة { إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } أي إلى مَنْ خلقَكم بريئاً من العُيوب والنقصان والتفاوت وميّز بعضَكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وأصلُ التركيب الخلوصُ عن الغير إما بطريق التقصي كما في برِىء المريضُ أو بطريق الإنشاء كما في بَرَأ الله آدم من الطين والتعرض لعنوان البارئية للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها حيث تركوا عبادةَ العليمِ الحكيم الذي خلقهم بلطيف حكمتِه بريئاً من التفاوت والتنافُرِ إلى عبادة البقر الذي هو مثلٌ في الغباوة، وأن من لم يعرِفْ حقوقَ مُنعِمِه حقيقٌ بأن تُستردّ هي منه ولذلك أُمروا بالقتل وفك التركيب { فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } تماماً لتوبتكم بالبَخْع أو بقطع الشهوات، وقيل: أُمروا أن يقتُلَ بعضُهم بعضاً وقيل: أُمر من لم يعبد العجل بقتل مَنْ عَبَده. يروى أن الرجلَ كان يرىٰ قريبَه فلم يقدِرْ على المُضِيِّ لأمر الله تعالى فأرسل الله ضَبابةً وسحابة سوداءَ لا يتباصَرون بها فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارونُ عليهما السلام، فكُشفت السحابةُ ونزلت التوبةُ وكانت القتلى سبعين ألفاً، والفاء الأولى للتسبـيب والثانية للتعقيب { ذٰلِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من التوب والقتل { خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } لما أنه طُهرةٌ عن الشرك ووَصْلةٌ إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } عطفٌ على محذوف على أنه خطابٌ منه سبحانه على نهج الالتفاتِ من التكلم الذي يقتضيه سياقُ النظم الكريمِ وسياقه فإن مبنىٰ الجميعِ على التكلم إلى الغَيْبة ليكون ذريعة إلى إسناد الفعلِ إلى ضمير بارئِكم المستتبع للإيذان بعلّية عنوانِ البارئية والخلق والإحياءِ لقبول التوبة التي هي عبارةٌ عن العفو عن القتل، تقديرُه فعلتم ما أمرتم به فتابَ عليكم بارئُكم وإنما لم يقل فتابَ عليهم على أن الضميرَ للقوم لما أن ذلك نعمةٌ أريد التذكيرُ بها للمخاطبـين لا لأسلافهم هذا وقد جوز أن يكون فتاب عليكم متعلقاً بمحذوفٍ على أنه من كلام موسى عليه السلام لقومه تقديرُه إن فعلتم ما أُمِرْتم به فقد تاب عليكم ولا يخفىٰ أنه بمعزلٍ من اللَّياقة بجلالة شأنِ التنزيلِ، كيف لا وهو حينئذ حكايةٌ لوعد موسى عليه السلام قومَه بقَبول التوبةِ منه تعالى لا لقبوله تعالى حتماً، وقد عرفتَ أن الآيةَ الكريمةَ تفصيلٌ لكيفية القبول المحكيِّ فيما قبل وأن المراد تذكيرُ المخاطبـين بتلك النعمة.

{ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } تعليل لما قبله أي الذي يُكثر توفيقَ المذنبـين للتوبة ويبالِغُ في قبولها منهم وفي الإنعام عليهم.