خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِذْ قُلْتُمْ } تذكيرٌ لجناية أخرى لأسلافهم وكُفرانهم لنعمة الله عز وجل وإخلادِهم إلى ما كانوا فيه من الدناءة والخساسةِ، وإسنادُ القول المحكّى إلى أخلاقهم وتوجيهُ التوبـيخ إليهم لما بـينهم من الاتحاد { يَـٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وٰحِدٍ } لعلهم لم يريدوا بذلك جمعَ ما طلبوا مع ما كان لهم من النعمة ولا زوالَها وحصولَ ما طلبوا مكانها إذ يأباه التعرضُ للوحدة بل أرادوا أن يكون هذا تارةً وذاك أخرى. رُوي أنهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة العتيدة لوحدتها النوعية وإطرادها وتاقت أنفسُهم إلى الشقاء { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } أي سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببـية عدمِ الصبر للدعاء، والتعرضُ لعنوان الربوبـية لتمهيد مبادي الإجابة { يُخْرِجْ لَنَا } أي يُظهِرْ لنا ويوجِدْ والجزم لجواب الأمر { مِمَّا تُنبِتُ ٱلأرْضُ } إسناد مجازيٌّ بإقامَةِ القابلِ مُقامَ الفاعل ومن تبعيضيةٌ والتي في قوله تعالى: { مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } بـيانية واقعةٌ موقعَ الحال أي كائناً من بقلها الخ وقيل: بدلٌ بإعادة الجارِّ، والبقلُ ما تنبتُ الأرضُ من الخُضَر والمراد به أطايبُه التي تؤكلُ كالنَّعناع والكُرفُس والكُرَّاث وأشباهِها، والفومُ الحِنطةُ وقيل: الثوم وقرىء قُثائها بضم القاف وهو لغة فيه { قَالَ } أي الله تعالى أو موسى عليه السلام إنكاراً عليهم وهو استئناف وقع جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال لهم فقيل قال: { أَتَسْتَبْدِلُونَ } أي أتأخُذون لأنفسِكم وتختارون { ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ } أي أقربُ منزلةً وأدون قدراً سهلُ المنال وهينُ الحصول لعدم كونه مرغوباً فيه وكونه تافهاً مرذولاً قليلَ القيمة، وأصلُ الدنوّ القُرب في المكان فاستعير للخِسة كما استعير البُعدُ للشرف والرفعة، فقيل: بعيدُ المحل وبعيدُ الهمة وقرىء أدنأُ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة { بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ } أي بمقابلة ما هو خيرٌ فإن الباء تصحب الذاهبَ الزائلَ دون الآتي الحاصل كما في التبدل والتبديل في مثل قوله عز وجل: { { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَـٰنِ } [البقرة، الآية 108] وقوله: { { وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } [سبأ، الآية 16] وليس فيه ما يدل قطعاً على أنهم أرادوا زوالَ المنِّ والسلوى بالمرة، وحصولُ ما طلبوا مكانه لتحقق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة { ٱهْبِطُواْ مِصْرًا } أُمروا به بـياناً لدناءة مطلَبِهم أو إسعافاً لمرامهم أي انحدروا إليه من التّيه يقال: هبَط الواديَ وقرىء بضم الباء، والمِصرُ البلدُ العظيم وأصله الحدُّ بـين الشيئين، وقيل: أريد به العلُم وإنما صُرف لسكون وسَطِه أو لتأويله بالبلد دون المدينة، ويؤيده أنه في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه غيرُ منون، وقيل: أصلُه مِصْرايـيم فعرب { فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } تعليلٌ للأمر بالهبوط أي فإن لكم فيه ما سألتموه، ولعل التعبـيرَ عن الأشياء المسؤولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل: فإنه كثيرٌ فيه مبتذلٌ يناله كلُّ أحد بغير مشقة { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } أي جعلتا محيطتين بهم إحاطةَ القُبة بمن ضربت عليه أو ألصِقتا بهم وجعلتا ضربةَ لازبٍ لا تنفكان عنهم مجازاةً لهم على كُفرانهم، مِنْ ضَرْبِ الطينِ على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية، واليهودُ في غالب الأمر أذلاءُ مساكينُ إما على الحقيقة، وإما لخوف أن تضاعَفَ جزيتُهم { وَبَاءوا } أي رجعوا، { بِغَضَبٍ } عظيم وقوله تعالى: { مِنَ ٱللَّهِ } متعلق بمحذوف هو صفةٌ لغضبٍ مؤكِّدٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافيةِ أي بغضب كائنٍ من الله تعالى أو صاروا أحقاءَ به، من قولهم باءَ فلانٌ بفلان أي صار حقيقاً بأن يُقتلَ بمقابلته، ومنه قول من قال: بُؤْ بشِسْعِ نعلِ كُلَيبٍ، وأصل البَوْء المساواة { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما سلف من ضرب الذِلة والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيم { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَانُواْ يَكْفُرُونَ } على الاستمرار { بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الباهرة التي هي المعجزاتُ الساطعةُ الظاهرة على يدي موسى عليه السلام مما عُد وما لم يُعَدَّ { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } كشَعْيا وزكريا ويحيـىٰ عليهم السلام، وفائدةُ التقيـيد مع أن قتل الأنبـياءِ يستحيل أن يكون بحق الإيذانُ بأن ذلك عندهم أيضاً بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقداً بحقية قتلِ أحدٍ منهم عليهم السلام وإنما حملهم على ذلك حبُّ الدنيا واتباعُ الهوى والغلوُّ في العصيان والاعتداءُ كما يفصح عنه قوله تعالى: { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي جرَّهم العصيانُ والتمادي في العُدوان إلى ما ذُكر من الكفر وقتلِ الأنبـياءِ عليهم السلام فإن صِغارَ الذنوب إذا دُووِمَ عليها أدتْ إلى كبارها كما أن مداومةَ صغارِ الطاعات مؤديةٌ إلى تحرّي كبارِها، وقيل: كُرِّرت الإشارةُ للدلالة على أن ما لَحِقَهم كما أنه بسبب الكفر والقتلِ فهو بسببِ ارتكابِهم المعاصيَ واعتدائهم حدودَ الله تعالى وقيل: الإشارةُ إلى الكفر والقتل، والباء بمعنى مع ويجوز الإشارة إلى المتعدِّد بالمفرد بتأويل ما ذُكر أو تقدم كما في قول رؤبة بنِ العجاج: [الرجز]

فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقكأنه في الجِلد توليعُ البَهَقْ

أي كان ما ذُكر والذي حسَّن ذلك في المضْمَرات والمبهمات أن تثنيتها وجمعَها ليسا على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الذين