خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٨
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

[علامات المنافقين]

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ } شروع في بـيان أن بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد، بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد، وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة، وأصلُ ناسٍ أُناسٌ، كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ، حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل: لوقة في ألوقة، وعُوّض عنها حرفُ التعريف، ولذلك لا يُكاد يُجمع بـينهما، وأما في قوله: [مجزوء الكامل]

إن المنايا يطَّلِعْــنَ على الأُناسِ الآمنينا

فشاذ، سموا بذلك لظهورهم وتعلُّقِ الإيناسِ بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم. وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة، انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ، نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قلبت ألفاً، سُمّوا بذلك لنسيانهم، ويُروى عن ابن عباس أنه قال: سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي، واللام فيه إما للعهد، أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول، كأنه قيل: ومنهم أو من أولئك، والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم، كما ينبىء عنه التبعيضُ، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه، أو نعتٌ لمبتدإٍ، كما في قوله عز وجل: { { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [الجن، الآية 11] أي وجمعٌ منا الخ، ومن في قوله تعالى: { مَن يِقُولُ } موصولة أو موصوفة، ومحلُها الرفعُ على الخبرية، والمعنى وبعضُ الناس، أو وبعضٌ من الناس الذي يقول، كقوله تعالى: { { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ } [التوبة، الآية 61] الآية، أو فريق يقول، كقوله تعالى: { { مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } [الأحزاب، الآية 23] الخ، على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة، وما يتعلق به من الصفات جميعاً، لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين.

وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى، لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ، فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل، فإن مبناه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً، وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبـيهُ على أن الصفاتِ المذكورةَ تنافي الإنسانية، فحقُّ من يتصفُ بها ألا يُعلمَ كونُه من الناس، فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه، وأنت خبـير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين، أو عن الجنس المقصور على المصرّين، وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة، بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبـيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً للموضوع مفروغاً عنه، غيرَ مقصودٍ بالذات، ويكونُ مناطَ الإفادة كونُهم من أولئك المذكورين، ولا ريب لأحدٍ في أنه يجب حملُ النظم الجليلِ على أجزلِ المعاني وأكملِها، وتوحيدُ الضمير في (يقول) باعتبار لفظةِ (مَن)، وجمعُه في قوله: { آمنا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ } وما بعده باعتبار معناها، والمرادُ باليوم الآخِرِ من وقت الحشرِ إلى ما لا يتناهىٰ، أو إلى أن يدخُلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ، إذ لا حدَّ وراءه، وتخصيصُهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباءِ لادعاء أنهم قد حازوا الإيمانَ من قُطريه، وأحاطوا به من طرفيه، وأنهم قد آمنوا بكلَ منهما على الأصالة والاستحكام، وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانُهم بواحد منهما إيماناً في الحقيقة، إذ كانوا مشركين بالله بقولهم: { { عُزَيرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة، الآية 30] وجاحدين باليوم الآخر بقولهم: { { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [البقرة، الآية 80] ونحو ذلك، وحكايةُ عبارتهم لبـيان كمالِ خبثهم ودعارتِهم، فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخِداعِ والنفاقِ وعقيدتُهم عقيدتُهم لم يكن ذلك إيماناً، فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المؤمنين واستهزاءً بهم { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ردٌّ لما ادعَوْه ونفيٌ لما انتحلوه. وما حجازية، فإن جوازَ دخولِ الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقيٌّ بخلاف التميمية، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية الموافقةِ لدعواهم المردودةِ للمبالغة في الرد بإفادة انتفاءِ الإيمانِ عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية. ولا يُتوهمَن أن الجملة الاسمية الإيجابـية تفيد دوام الثبوت، فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام، فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعاً، كما أن المضارع الخاليَ عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع، لا على امتناع الاستمرار، كما في قوله عز وجل: { وَلَوْ يُعَجّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [يونس، الآية 11] فإن عدم قضاءِ الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرارِ التعجيل، وإطلاقُ الإيمان عما قيدوه به للإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلاً، فضلاً عن الإيمان بما ذكروا، وقد جُوِّز أن يكون المراد ذلك، ويكون الإطلاق للظهور، ومدلولُ الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان، واعتقادُه بخلافه، لا يكون مؤمناً، فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوّه بكلمتي الشهادة - فارغَ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمنٌ.