خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٩٣
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
٩٤
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ
٩٥
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ } توبـيخ من جهة الله تعالى وتكذيبٌ لهم في ادعائهم الإيمانَ بما أُنزلَ عليهم بتذكير جناياتِهم الناطقةِ بكَذِبهم أي واذكروا حين أخذنا ميثاقَكم { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } قائلين: { خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ } أي خذوا بما أُمرتم به في التوراة واسمعوا ما فيها سمعَ طاعةٍ وقَبول { قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال سائلٍ كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا: { سَمِعْنَا } قولَك { وَعَصَيْنَا } أمرَك فإذا قابل أسلافُهم مثلَ ذلك الخطابِ المؤكدِ مع مشاهدتهم مثلَ تلك المعجزةِ الباهرةِ بمثل هذه العظيمة الشنعاءِ وكفروا بما في تضاعيف التوبةِ فكيف يُتصوّر من أخلافِهم الإيمانُ بما فيها.

{ وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } على حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامُه للمبالغة أي تَداخَلَهم حبُّه ورسَخَ في قلوبهم صورتُه لفَرْط شغَفِهم به وحِرصِهم على عبادته كما يَتداخل الصبغ الثوبَ والشرابُ أعماقَ البدن، و(في قلوبهم) بـيانٌ لمكان الإشرابِ كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } والجملة حالٌ من ضمير قالوا بتقدير قد { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرِهم السابقِ الموجبِ لذلك، قيل: كانوا مجسِّمة أو حلولية، ولم يرَوا جسماً أعجبَ منه فتمكّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ { قُلْ } توبـيخاً لحاضري اليهود إثرَ ما تبـين من أحوال رؤسائِهم الذين بهم يقتدون في كل ما يأتون وما يذرون { بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـٰنُكُمْ } بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدّعون، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتِهم العجلَ، وفي إسناد الأمرِ إلى الإيمان تهكّمٌ بهم، وإضافةُ الإيمانِ إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمانٍ حقيقة كما يُنبىء عنه قوله تعالى: { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإنه قدْحٌ في دعواهم الإيمانَ بما أنزل عليهم من التوراة وإبطالٌ لها، وتقريرُه: إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذُكر من القول والعملِ بما فيها فبئسما يأمرُكم به إيمانُكم بها، وإذ لا يسوِّغُ الإيمانَ بها مثلُ تلك القبائحِ فلستم بمؤمنين بها قطعاً. وجوابُ الشرط كما ترى محذوفٌ لدلالة ما سبق عليه { قُلْ } كرر الأمرَ مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمرٌ بتبكيتهم وإظهارِ كذِبهم في فنٍ آخرَ من أباطيلهم لكنه لم يُحْكَ عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتُفيَ بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام حيث قيل: { إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } أي الجنةُ أو نعيمُ الدار الآخرة { عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً } أي سالمة لكم خاصة بكم كما تدّعون أنه لن يدخُلَ الجنةَ إلا من كان هوداً أو نصارىٰ، ونصبُها على الحالية من الدار وعند ظرفٌ للاستقرار في الخبر أعني لكم، وقوله تعالى: { مّن دُونِ ٱلنَّاسِ } في محل النصبِ بخالصة يقال: خلَص لي كذا من كذا، واللامُ للجنس أي الناس كافة أو للعهد أي المسلمين { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاقَ إلى التخلص إليها من دارة البوارِ وقرارة الأكدار، لا سيما إذا كانت خالصة له كما قال علي كرم الله وجهه: «لا أبالي أسقطتُ على الموت أو سقط الموتُ عليّ». وقال عمارُ بنُ ياسرٍ بصِفِّينَ: [الرجز]

الآن ألقـــىٰ الأحبَّـــهمحمـــداً وحــزبَـــــهْ

وقال حذيفةُ بنُ اليمانِ حين احتُضِرَ وقد كان يتمنى الموت قبلُ:

[و] جاءَ حبـيبٌ على فاقةٍفلا أفلح اليوم من قد ندِمْ

أي على التمني وقوله تعالى: { إِن كُنْتُمْ صَـٰدِقِينَ } تكريرٌ للكلام لتشديد الإلزامِ وللتنبـيه على أن ترتبَ الجوابِ ليس على تحقق الشرطِ في نفس الأمر فقط بل في اعتقادهم أيضاً وأنهم قد ادعَوا ذلك، والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه أي إن كنتم صادقين فتمنَّوْه وقوله تعالى: { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } كلام مستأنفٌ غيرُ داخل تحت الأمر سيق من جهته سبحانه لبـيان ما يكون منهم من الإحجام عما دُعُوا إليه الدالِّ على كذبهم في دعواهم { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بسبب ما عمِلوا من المعاصي الموجبةِ لدخول النار كالكفر بالنبـي عليه السلام والقرآنِ وتحريفِ التوراة. ولما كانت اليدُ من بـين جوراحِ الإنسان مناطَ عامةِ صنائِعه ومدارَ أكثرِ منافعِه عُبِّر بها تارةً عن النفس وأخرى عن القدرة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ } أي بهم، وإيثارُ الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيلِ عليهم بأنهم ظالمون في جميع الأمورِ التي من جملتها ادعاءُ ما ليس لهم ونفيُه عن غيرهم. والجملةُ تذيـيل لما قبلها مقرِّرةٌ لمضمونه أي عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلمِ والمعاصي المُفْضيةِ إلى أفانينِ العذاب، وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدي إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمنَّ منهم موتَه أحدٌ، إذ لو وقع ذلك لنُقل واشتهر. وعن النبـي صلى الله عليه وسلم: "لو تَمَنَّوا الموتَ لغَصَّ كلُّ إنسان بريقه فمات مكانه، وما بقي يهوديٌّ على وجه الأرض" «