خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ
١٨
قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ
١٩
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ
٢٠
قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلأُولَىٰ
٢١
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ هِيَ عَصَاىَ } نسبها إلى نفسه تحقيقاً لوجه كونِها بـيمينه وتمهيداً لما يعقُبه من الأفاعيل المنسوبةِ إليه عليه الصلاة والسلام، وقرىء عَصَيَّ على لغة هذيل { أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا } أي أعتمد عليها عند الإعياءِ أو الوقوفِ على رأس القطيع { وَأَهُشُّ بِهَا } أي أخبِط بها الورقَ وأُسقطه { عَلَىٰ غَنَمِى } وقرىء أهِشّ بكسر الهاء وكلاهما من هشّ الخبزُ يهش إذا انكسر لهشاشته، وقرىء بالسين غيرِ المعجمة وهو زجرُ الغنم وتعديتُه بعلى لتضمين معنى الإنحاءِ والإقبال، أي أزجُرها مُنْحِياً ومُقبلاً عليها { وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَىٰ } أي حاجاتٌ أخرى من هذا الباب مثلُ ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلّق بها أدواتِه من القوس والكِنانة والحِلاب ونحوِها، وإذا كان في البرية ركَزها وعرض الزنذين على شعبتيها وألقى عليها الكِساء واستظل به، وإذا قصُر الرِّشاءُ وصله بها، وإذا تعرضت لغنمه السباعُ قاتل بها، قيل: ومن جملة المآربِ أنها كانت ذاتَ شعبتين ومِحْجَن فإذا طال الغصنُ حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين، وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم أن المقصودَ من السؤال بـيانٌ حقيقتها وتفصيلُ منافعِها بطريق الاستقصاءِ حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقةِ وبدت منها خواصُّ بديعةٌ علم أنها آياتٌ باهرة ومعجزاتٌ قاهرة أحدثها الله تعالى، وليست من الخواصّ المترتبةِ عليها، فذكرُ حقيقتَها ومنافعَها على التفصيل والإجمال على معنى أنها من جنس العِصِيّ مستتبِعةٌ لمنافعِ بناتِ جنسِها ليطابقَ جوابُه الغرضَ الذي فهمه من سؤال العليم الخبـير.

{ قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه الذهنُ، كأنه قيل: فماذا قال عز وجل؟ فقيل: قال: { أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ } لترى من شأنها ما لم يخطُر على بالك من الأمور، وتكرارُ النداءِ لتأكيد التنبـيه.

{ فَأَلْقَـٰهَا } على الأرض { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } رُوي أنه عليه الصلاة والسلام حين ألقاها انقلبت حيةً صفراءَ في غِلَظ العصا ثم انتفخت وعظُمت، فلذلك شُبّهت بالجانّ تارةً وسميت ثُعباناً أخرى وعبّر عنها هٰهنا بالاسم العامّ للحالين، وقيل: قد انقلبت من أول الأمر ثعباناً وهو الأليقُ بالمقام كما يفصح عنه قوله عز وجل: { { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [الأعراف: 107 والشعراء: 32] وإنما شبهت بالجان في الجلادة وسُرعة الحركةِ لا في صِغَر الجُثة، وقوله تعالى: { تَسْعَىٰ } إما صفةٌ لحيّةٌ أو خبرٌ ثان عند من يجوز كونَه جملة.

{ قَالَ } استئناف كما سبق { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } عن ابن عباس رضي الله عنهما: انقلبت ثعباناً ذكَراً يبتلع كلَّ شيء من الصخر والشجَر، فلما رآه كذلك خاف ونفَر، وما يملك البشرُ عند مشاهدةِ الأهوال والمخاوفِ من الفزع والنّفار، وفي عطف النهي على الأمر إشعارٌ بأن عدمَ المنهيّ عنه مقصودٌ لذاته لا لتحقيق المأموريةِ فقط وقوله تعالى: { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ } مع كونه استئنافاً مسوقاً لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتَها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها، وعدمِ الخوفِ منها عِدَةٌ كريمةٌ بإظهار معجزةٍ أخرى على يده عليه الصلاة والسلام، وإيذانٌ بكونها مسخَّرةً له عليه الصلاة والسلام ليكون على طُمَأْنينة من أمره ولا يعتريه شائبةُ تَزلزُلٍ عند مُحاجّة فرعون، أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى التي هي الهيئةُ العَصَوية. قيل: بلغ عليه الصلاة والسلام عند ذلك من الثقة وعدمِ الخوف إلى حيث كان يُدخل يدَه في فمها ويأخذ بلَحْيَـيها. والسِّيرةُ فِعْلةٌ من السير تجوز بها للطريقة والهيئة، وانتصابُها على نزع الجارِّ أي إلى سيرتها، أو على أنّ أعاد منقولٌ من عاده بمعنى عاد إليه، أو على الظرفية أي سنعيدها في طريقها، أو على تقدير فعلها وإيقاعِها حالاً من المفعول أي سنعيدها عصاً كما كانت من قبل تسير سيرتَها الأولى، أي سائرةً سيرتَها الأولى فتنتفعَ بها كما كنت تنتفع من قبل.