خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ
٤٠
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

أنْ في قوله تعالى: { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِى ٱلتَّابُوتِ } مفسِّرةٌ لأن الوحيَ من باب القول أو مصدريةٌ حُذف منها الباء، أي بأن اقذفيه ومعنى القذْفِ هٰهنا الوضعُ وأما في قوله تعالى: { فَٱقْذِفِيهِ فِى ٱلْيَمّ } فالإلقاءُ، وهذا التفصيلُ هو المرادُ بقوله تعالى: { { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱليَمّ } [القصص: 7] لا القذفُ بلا تابوت { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } لما كان إلقاءُ البحرِ إياه بالساحل أمراً واجبَ الوقوع لتعلق الإرادةِ الربانية به جُعل البحرُ كأنه ذو تميـيزٍ مطيعٍ أُمر بذلك وأُخرج الجوابُ مُخرجَ الأمر والضمائرُ كلُّها لموسى عليه الصلاة والسلام، والمقذوفُ في البحر والمُلقى بالساحل وإن كان هو التابوتَ أصالةً لكنْ لما كان المقصودُ بالذات ما فيه جُعل التابوتُ تبعاً له في ذلك { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ } جوابٌ للأمر بالإلقاء، وتكريرُ العدو للمبالغة والتصريحِ بالأمر والإشعارِ بأن عداوتَه له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضرُه، بل تؤدي إلى المحبة فإن الأمرَ بما هو سبب للهلاك صورةً من قذفه في البحر ووقوعِه في يد عدو الله تعالى وعدوِّه مشعرٌ بأن هناك لُطفاً خفياً مندرجاً تحت قهرٍ صوريّ، وقيل: الأولُ باعتبار الواقعِ والثاني باعتبار المتوقَّع وليس المرادُ بالساحل نفسَ الشاطىء بل ما يقابل الوسطَ وهو ما يلي الساحلَ من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون، لما روي أنها جَعلتْ في التابوت قُطناً ووضعتْه فيه ثم قيّرتْه وألقتْه في اليم وكان يشرَع منه إلى بستان فرعون نهرٌ صغير فدفعه الماءُ إليه فأتى به إلى بِرْكة في البستان، وكان فرعونُ جالساً ثمّةَ مع آسيةَ بنتِ مُزاحِم فأُمر به فأُخرج ففُتح فإذا هو صبـيٌّ أصبحُ الناس وجهاً، فأحبه عدوُّ الله حباً شديداً لا يكاد يتمالك الصبرَ عنه وذلك قوله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } كلمةُ مِنْ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لمحبةً مؤكدةٌ لما في تنكيرها من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافية، أي محبةً عظيمة كائنةً مني قد زرعتُها في القلوب بحيث لا يكاد يصبِر عنك من رآك ولذلك أحبك عدوُّ الله وآلُه. وقيل: هي متعلقةٌ بألقيت أي أحببتُك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوبُ لا محالة وقوله تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِى } متعلقٌ بألقيتُ معطوفٌ على علة له مُضمَرةٍ، أي ليتعطّف عليك ولتَرْبىٰ بالحنوّ والشفقة بمراقبتي وحِفظي، أو بمضمر مؤخّرٍ هو عبارةٌ عما قبله من إلقاء المحبةِ، والجملةُ مبتدَأةٌ أي ولتصنع على عيني فعلتُ ذلك، وقرىء ولِتُصْنعْ على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرىء بفتح التاء والنصب أي وليكونَ عملُك على عين مني لئلا يخالَفَ به عن أمري.

{ إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ } ظرفٌ لتُصنعَ على أن المراد به وقتٌ وقع فيه مشيُها إلى بـيت فرعونَ وما ترتب عليه من القول والرجْعِ إلى أمها وتربـيتِها له بالبر والحُنوّ وهو المِصداق لقوله تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِى } إذ لا شفقةَ أعظمُ من شفقة الأم وصنعُها على موجب مراعاتِه تعالى، وقيل: هو بدلٌ من إذ أوحينا على أن المراد به زمانٌ متّسعٌ متباعدُ الأطراف وهو الأنسب بما سيأتي من قوله تعالى: { فَنَجَّيْنَـٰكَ مِنَ ٱلْغَمّ } [طه: 40] الخ، فإن جميع ذلك من المنن الإلٰهيةِ ولا تعلق لشيء منها بالصنع المذكور، وأما كونُه ظرفاً لألقيت كما جُوّز فربما يوهم أن إلقاءَ المحبة لم يحصُل قبل ذلك، ولا ريب في أن معظمَ آثارِ إلقائِها ظهر عند فتحِ التابوت { فَتَقُولُ } أي لفرعون وآسيةَ حين رأتهما يطلبان له عليه السلام مرضعةً يقبل ثديَها وكان لا يقبل ثدياً، وصيغةُ المضارِعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضية { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ } أي يضمه إلى نفسه ويربّـيه وذلك إنما يكون بقَبوله ثديَها.

يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آلَ فرعون أخذوا غلاماً من النيل لا يرتضع ثديَ امرأة واضطُروا إلى تتبّع النساء، فخرجت أختُه مريمُ لتعرِف خبرَه فجاءتهم متنكّرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا، فجاءت بأمه فقبِل ثديَها، فالفاء في قوله تعالى: { فَرَجَعْنَـٰكَ إِلَىٰ أُمّكَ } فصيحةٌ معربةٌ عن محذوف قبلها يُعطَف عليه ما بعدها، أي فقالوا: دُلّينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها { كَى تَقَرَّ عَيْنُها } بلقائك { وَلاَ تَحْزَنْ } أي يطرأَ عليها الحزنُ بفراقك بعد ذلك، وإلا فزوالُ الحزن مقدمٌ على السرور المعبَّر عنه بقُرّة العين فإن التخليةَ متقدمةٌ على التحلية، وقيل: ولا تحزنَ أنت بفقد إشفاقها { وَقَتَلْتَ نَفْساً } هي نفس القِبْطيّ الذي استغاثه الإسرائيليُّ عليه.

{ فَنَجَّيْنَـٰكَ مِنَ ٱلْغَمّ } أي غمِّ قْتلِه خوفاً من عقاب الله تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعونَ بالإنجاء منه بالمهاجَرة إلى مدين { وَفَتَنَّـٰكَ فُتُوناً } أي ابتليناك ابتلاءً أو فتوناً من الابتلاء على أنه جمعُ فتن، أو فتنة على ترك الاعتداء بالتاء كحُجوز في حجزة وبُدور في بَدْرة أي خلّصناك مرة بعد أخرى وهو إجمالُ ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقةِ الأُلاّف والمشْي راجلاً وفقْدِ الزاد، وقد روي أن سعيدَ بنَ جبـير سأل عنه ابنَ عباس رضي الله عنهما، فقال: خلّصناك من محنة بعد محنة ولد في عام كان يُقتل فيه الوِلْدانُ فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبـير، وألقتْه أمُّه في البحر وهمّ فرعونُ بقتله وقتلَ قِبْطياً وآجَرَ نفسه عشر سنين وضلّ الطريقَ وتفرّقت غنمُه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كلِّ واحدةٍ: فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبـير. ولكن الذي يقتضيه النظمُ الكريم أن لا تُعدَّ إجارةُ نفسه وما بعدها من تلك الفُتون ضرورةَ أن المرادَ بها ما وقع قبل وصولِه عليه السلام إلى مدينَ بقضية الفاء في قوله تعالى: { فَلَبِثَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } إذ لا ريب في أن الإجارةَ المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصولِ إليهم، وقد أشير بذكر لُبثه عليه السلام فيهم دون وصولِه إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام في تضاعيف تلك السنينَ العشْر من فنون الشدائد والمكاره التى كلُّ واحد منها فتنةٌ وأيُّ فتنة. ومدينُ بلدةُ شعيبٍ عليه الصلاة والسلام على ثماني مراحلَ من مصرَ { ثُمَّ جِئْتَ } إلى المكان الذي أُونس فيه النارُ ووقع فيه النداءُ والجُؤار، وفي كلمة التراخي إيذانٌ بأن مجيئَه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرُّقِ الغنم في الليلة المظلمةِ الشاتية وغيرِ ذلك { عَلَىٰ قَدَرٍ } أي تقديرٍ قدّرتُه لأن أكلّمَك وأستنبئَك في وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدَرِ غيرَ مستقدِمٍ ولا مستأخِر، وقيل: على مقدار من الزمان يوحىٰ فيه إلى الأنبـياء عليهم السلام وهو رأسُ أربعين سنةً وقوله تعالى: { يٰمُوسَىٰ } تشريفٌ له عليه الصلاة والسلام وتنبـيهٌ على انتهاء الحكايةِ التي هي تفصيلُ المرةِ الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكيةِ أولاً.