خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٤
بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ
٥
مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
٦
-الأنبياء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ رَبّى يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِى ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } حكايةٌ من جهته تعالى لما قاله عليه السلام بعد ما أوحىٰ إليه أحوالَهم وأقوالَهم بـياناً لظهور أمرِهم وانكشافِ سرِّهم، وإيثارُ القول المنتظمِ للسر والجهر على وتيرة واحدة لا تفاوتَ بـينهما بالجلاء والخفاء قطعاً كما في علوم الخلقِ، وقرىء: قل ربـي الخ، وقوله تعالى: { فِى ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من القول أي كائناً في السماء والأرض وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي المبالغُ في العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم، اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقررٌ لمضمون ما قبله متضمنٌ للوعيد.

{ بَلْ قَالُواْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ } إضرابٌ من جهته تعالى وانتقالٌ من حكاية قول آخرَ مضطربٍ في مسالك البطلان، أي لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه عليه السلام: هل هذا إلا بشرٌ؟ وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحرٌ، بل قالوا تخاليطُ الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا: { بَلِ ٱفْتَرَاهُ } من تلقاء نفسِه من غير أن يكون له أصلٌ أو شبهةُ أصلٍ، ثم قالوا: { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } وما أتى به شعرٌ يُخيّل إلى السامع معانيَ لا حقيقة لها وهكذا شأنُ المبطِلِ المحجوجِ متحيّرٌ لا يزال يتردد بـين باطلٍ وأبطلَ ويتذبذب بـين فاسد وأفسدَ، فالإضرابُ الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم وقد قيل: الكلُّ من قبلهم حيث أضربوا عن قولهم: هو سحرٌ إلى أنه تخاليطُ أحلام، ثم إلى أنه كلامٌ مفترًى ثم إلى أنه قولُ شاعر، ولا ريب في أنه كان ينبغي حينئذ أن يقال: قالوا: بل أضغاثُ أحلامٍ والاعتذارُ بأن (بل قالوا) مقولٌ لقالوا المضمرِ قبل قوله تعالى: { هَلْ هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ } الخ، ـ كأنه قيل: وأسروا النجوى قالوا: (هل هذا) إلى قوله: (بل أضغاثُ أحلام)، وإنما صرح بقالوا بعد بل لبُعْد العهد ـ مما يجب تنزيهُ ساحة التنزيلِ عن أمثاله { فَلْيَأتِنا بِآيَة } جوابُ شرطٍ محذوفٍ يفصح عنه السياقُ، كأنه قيل: وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله تعالى فليأتنا بآية { كَمَا أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ } أي مثلَ الآية التي أرسل بها الأولون كاليد والعصا ونظائرِهما حتى نؤمن به، فما موصولةٌ ومحلُّ الكاف الجرُّ على أنها صفةٌ لآية ويجوز أن تكون مصدريةً، فالكافُ منصوبةٌ على أنها مصدرٌ تشبـيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي فليأتنا بآية إتياناً كائناً مثلَ إرسالِ الأولين بها، وصِحّةُ التشبـيه من حيث إن الإتيانَ بالآية من فروع الإرسالِ بها أي مثلَ إتيانٍ مترتبٍ على الإرسال، ويجوز أن يحمل النظمُ الكريمُ على أنه أريد كلُّ واحد من الإتيان والإرسال في كل واحد من طرفي التشبـيه، لكنه تُرك في جانب المشبّه ذكرُ الإرسال وفي جانب المشبّهِ به ذكرُ الإتيانِ اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في الموطن الآخر حسبما مر في آخر سورة يونسَ عليه السلام.

{ مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتكذيبهم فيما تنبىء عنه خاتمةُ مقالهم من الوعد الضمنيّ بالإيمان كما أشير إليه، وبـيانِ أنهم في اقتراح تلك الآياتِ كالباحث عن حتفه بظِلْفه وأن في ترك الإجابة إليه إبقاءً عليهم، كيف لا ولو أُعطوا ما اقترحوا مع عدم إيمانهم قطعاً لوجب استئصالُهم لجريان سنةِ الله عز وجل في الأمم السالفة، على أن المقترحين إذا أُعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذابُ الاستئصال لا محالة، وقد سبقت كلمةُ الحق منه تعالى أن هذه الأمةَ لا يعذبون بعذاب الاستئصالِ، فقوله: من قرية أي من أهل قرية في محل الرفعِ على الفاعلية ومن مزيدةٌ لتأكيد العمومِ وقوله تعالى: { أَهْلَكْنَـٰهَا } أي بإهلاك أهلِها لعدم إيمانِهم بعد مجيءِ ما اقترحوه من الآيات صفةٌ لقرية والهمزة في قوله تعالى: { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } لإنكار الوقوعِ والفاء للعطف إما على مقدر دخلتْه الهمزةُ فأفادت إنكارَ وقوعِ إيمانِهم ونفيَه عقبَ عدمِ إيمان الأولين، فالمعنى أنه لم تؤمنْ أمةٌ من الأمم المهلَكة عند إعطاءِ ما اقترحوه من الآيات فلم يؤمنوا، أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعتى منهم وأطغى؟ وإما على ما آمنت على أن الفاء متقدمةٌ على الهمزة في الاعتبار مفيدةٌ لترتيب إنكارِ وقوعِ إيمانِهم على عدم إيمانِ الأولين، وإنما قُدّمت عليها الهمزةُ لاقتضائها الصدارةَ كما هو رأيُ الجمهور.