خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ
٦٠
لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٦١
-النور

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنّسَاء } أي العجائزُ اللاتي قعدنَ عن الحيض والحملِ { ٱلَّلَـٰتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } أي لا يطمعنَ فيه لكبرهنَّ { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } أي الثيابَ الظَّاهرةَ كالجلباب ونحوِه، والفاءُ فيه لأن اللاَّمَ في القواعدِ بمعنى اللاَّتِي أو للوصفِ بها { غَيْرَ مُتَبَرّجَـٰتِ بِزِينَةٍ } غير مظهراتٍ لزينةٍ ممَّا أمر بإخفائِه في قوله تعالى: { { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [النور: 31] وأصلُ التَّبرجِ التَّكلُّفُ في إظهارِ ما يَخْفى من قولِهم: سفينةٌ بارجةٌ لا غطاءَ عليها والبَرَجُ سعةُ العينِ بحيث يُرى بـياضُها محيطاً بسوادِها كلِّه إلا أنَّه خُصَّ بكشفِ المرأةِ زينتَها ومحاسنَها للرِّجال { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } بترك الوضعِ { خَيْرٌ لَّهُنَّ } من الوضعِ لبُعده من التُّهمَة { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } مبالغٌ في سمعِ جميعِ ما يُسمع فيسمعُ ما يَجري بـينهنَّ وبـين الرِّجالِ من المقاولةِ { عَلِيمٌ } فيعلم مقاصدهنَّ وفيه من التَّرهيبِ ما لا يخفى.

{ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } كانت هؤلاء الطوائفُ يتحرَّجُون من مؤاكلةِ الأصحَّاءِ حِذاراً من استقذارِهم إيَّاهم وخَوفاً من تأذِّيهم بأفعالِهم وأوضاعِهم فإنَّ الأعمى رُبَّما سبقتَ يدُه إلى ما سبقتْ إليه عينُ أكيلِه وهو لا يشعرُ به والأعرجُ يتفسَّح في مجلسِه فيأخذُ أكثرَ من موضعِه فيضيقُ على جليسِه والمريضُ لا يخلُو عن حالةٍ تُؤذي قرينَه. وقيل: كانُوا يدخلُون على الرَّجل لطلبِ العلمِ فإذا لم يكُن عنده ما يُطعمهم ذهبَ بهم إلى بـيوتِ آبائِهم وأمَّهاتِهم أو إلى بعضِ مَن سمَّاهم الله عزَّ وجلَّ في الآيةِ الكريمةِ فكانُوا يتحرَّجون من ذلكَ ويقولُون: ذهبَ بنا إلى بـيتِ غيرِه ولعلَّ أهلَه كارهون لذلكَ وكذا كانُوا يتحرَّجُون من الأكلِ من أموالِ الذينَ كانُوا إذا خرجُوا إلى الغزوِ خلَّفوا هؤلاءِ الضُّعفاءَ في بـيوتِهم ودفعُوا إليهم مفاتيحَها وأذنُوا لهم أنْ يأكلُوا مما فيها مخافةَ أنْ لا يكون إذنُهم عن طيبِ نفسٍ منهم وكانَ غيرُ هؤلاء أيضاً يتحرَّجون من الأكلِ في بـيوتِ غيرِهم فقيل لهم: ليسَ على الطوائفِ المعدودةِ { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } أي عليكم وعلى مَن يُماثلكم في الأحوالِ من المؤمنينَ حرجٌ { أَن تَأْكُلُواْ } أي تأكلُوا أنتُم وهم معكم. وتعميمُ الخطابِ للطَّوائفِ المذكورةِ أيضاً يأباهُ ما قبله وما بعدَه فإنَّ الخطابَ فيهما لغير أولئكَ الطَّوائفِ حتماً { مِن بُيُوتِكُمْ } أي البـيوتِ التي فيها أزواجُكم وعيالُكم فيدخل فيها بـيوتُ الأولادِ لأنَّ بـيتَهم كبـيتِه لقوله عليه الصلاة والسلام: "أنتَ ومالُكَ لأبـيكَ" وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: "إنَّ أطيبَ مالِ الرَّجلِ من كسبِه وإنَّ ولدَه من كسبِه" { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } وقُرىء بكسرِ الهمزةِ والميمِ وبكسرِ الأُولى وفتحِ الثَّانيةِ { أَوْ بُيُوتِ إِخْوٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَـٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَـٰلَـٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } من البـيوتِ التي تملكُون التَّصرفَ فيها بإذنِ أربابِها على الوجهِ الذي مرَّ بـيانُه، وقيل: هي بـيوتُ المماليكِ، والمفاتحُ جمع مِفْتحٍ وجمعُ المفتاحِ مفاتيحُ. وقُرىء مُفتاحَه { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي أو بـيوتِ صديقِكم وإنْ لم يكُن بـينكم وبـينهم قرابةٌ نَسَبـيةٌ فإنَّهم أرضى بالتَّبسطِ وأسرُّ به من كثيرٍ من الأقرباءِ. رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّ الصَّديقَ أكبرُ من الوالدينِ إن الجهنميـين لمَّا استغاثُوا لم يستغيثوا بالآباءِ والأمَّهاتِ بل قالُوا: فما لنا من شافعينَ ولا صديقٍ حميم، والصَّديقُ يقعُ على الواحدِ والجمعِ كالخَليط والقَطينِ وأضرابِهما وهذا فيما إذا عَلم رضَا صاحبِ البـيتِ بصريحِ الإذنِ أو بقرينةٍ دالَّةٍ عليه ولذلكَ خُصص هؤلاءِ بالذِّكرِ لاعتيادِهم التَّبسطَ فيما بـينُهم وقولُه تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } كلامٌ مستأنفٌ مسوق لبـيانِ حكمٍ آخرَ من جنسِ ما بُـيِّن قبله حيثُ كان فريقٌ من المؤمنينَ كبني ليثِ بنِ عمروٍ من كِنانةَ يتحرَّجون أنْ يأكلُوا طعامَهم مُنفردين وكانَ الرَّجلُ منهم لا يأكلُ ويمكثُ يومَه حتَّى يجدَ ضيفاً يأكلُ معه فإنْ لم يجدْ من يُؤاكله لم يأكلْ شيئاً ورُبَّما قعدَ الرَّجلُ والطَّعامُ بـين يديهِ لا يتناولُه من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ ورُبَّما كانتْ معه الإبلُ الحُفّلِ فلا يشربُ من ألبانِها حتَّى يجدَ مَن يُشاربه فإذا أمسى ولم يجدْ أحداً أكلَ، وقيل: كان الغنيُّ منهم يدخلُ على الفقيرِ من ذوي قرابته وصداقتِه فيدعُوه إلى طعامِه فيقول: إنِّي أتحرَّجُ أنْ آكلَ معك وأنا غنيٌّ وأنت فقيرٌ، وقيل: كان قومٌ من الأنصار لا يأكلون إذا نزلَ بهم ضيفٌ إلا مع ضيفِهم فرُخِّص لهم في أن يأكلُوا كيف شاءوا، وقيل: كانوا إذا اجتمعُوا ليأكلوا طعاماً عزلُوا للأعمى وأشباهِه طعاماً على حدةٍ فبـيَّن الله تعالى أن ذلك ليس بواجبٍ وقوله تعالى: { جَمِيعاً } حالٌ من فاعلِ تأكلوا وأشتاتاً عطفٌ عليه داخلٌ في حُكمه وهو جمعُ شَتَ على أنَّه صفةٌ كالحقِّ يقال: أمر شتٌّ أي متفرِّقٌ أو على أنه في الأصلِ مصدرٌ وصف به مبالغةً أي ليس عليكم جناحٌ أنْ تأكلوا مجتمعين أو متفرِّقين { فَإِذَا دَخَلْتُمْ } شروع في بـيان الآدابِ التي تجب رعايتها عند مباشرةِ ما رُخِّص فيه إثرَ بـيان الرُّخصةِ فيه { بُيُوتًا } أي من البـيوتِ المذكورة { فَسَلّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } أي على أهلِها الذين بمنزلة أنفسِكم لما بـينكم وبـينهُم من القرابة الدِّينيةِ والنَّسبـيةِ الموجبة لذلك { تَحِيَّةً مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي ثابتةً بأمره مشروعةً من لدنه ويجوزُ أنْ يكون صلةً للتَّحية فإنَّها طلبُ الحياة التي هي من عنده تعالى وانتصابُها على المصدريَّةِ لأنَّها بمعنى التَّسليمِ { مُّبَـٰرَكَةٍ } مستتبعة لزيادة الخيرِ والثَّواب ودوامها { طَيّبَةً } تطيبُ بها نفسُ المستمع. وعن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: " "متى لقيتَ أحداً من أمَّتي فسلِّم عليه يطُلْ عمرُك وإذا دخلتَ بـيتَك فسلِّم عليهم يكثُر خيرُ بـيتك وصلِّ صلاةَ الضُّحى فإنَّها صلاةُ الأبرارِ الأوَّابـينَ" " .

{ كَذٰلِكَ يُبيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَـٰتِ } تكرير لتأكيد الأحكامِ المختتمةِ به وتفخيمها { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي ما في تضاعيفها من الشَّرائعِ والأحكامِ وتعملون بموجبها وتحوزُون بذلك سعادةَ الدَّارين، وفي تعليل هذا التَّبـيـينِ بهذه الغاية القُصوى بعد تذيـيل الأولين بما يُوجبهما من الجَزَالةِ ما لا يخفى.