خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
١٤٠
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } القرحُ بالفتح والضم لغتان كالضَّعف والضُّعف وقد قرىء بهما، وقيل: هو بالفتح الجراحُ وبالضم ألَمُها، وقرىء بفتحتين، وقيل: القرح والقرح كالطرد والطرد، والمعنى إن نالوا منكم يومَ أحُدٍ فقد نِلتم منهم قبله يومَ بدرٍ ثم لم يُثَبِّطْهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحقُّ بأن لا تضعُفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون. وقيل: كلا المَسَّيْنِ كان يوم أحُد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَتلوا منهم نيفاً وعشرين رجلاً منهم صاحبُ لوائِهم وجرحوا عدداً كثيراً وعقَروا عامة خيلِهم بالنبل { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ } إشارةٌ إلى الأيام الجاريةِ فيما بـين الأممِ الماضيةِ والآتيةِ كافةً لا إلى الأيامِ المعهودةِ خاصةً من يوم بدرٍ ويومِ أحدٍ بل هي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً، والمرادُ بها أوقاتُ الظَفَرِ والغَلَبةِ { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } نُصَرِّفها بـينهم نُديلُ لهؤلاء تارةً ولهؤلاء أخرى كقول من قال: [المتقارب]

فيوماً علينا ويوماً لناويوماً نُساءُ ويوماً نُسَرُّ

والمداولةُ كالمعاورة، يقال: داولتُه بـينهم فتداولوه أي عاورْتُه فتعاوروه. واسمُ الإشارةِ مبتدأ والأيامُ إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بـيانٍ له ونداولها خبرُه أو خبره ونداولها حالٌ من الأيام والعاملُ معنى اسمِ الإشارةِ أو خبرٌ بعد خبرٍ وصيغةُ المضارعِ الدالةُ على التجدد والاستمرارِ للإيذان بأن تلك المداولةَ سنةٌ مسلوكةٌ فيما بـين الأممِ قاطبةً سابقتِها ولاحقتِها وفيه ضربٌ من التسلية، وقوله عز وجل: { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } إما من باب التمثيلِ أي ليعامِلَكم معاملةَ من يريد أن يَعلمَ المخلِصين الثابتين على الإيمان من غيرهم، أو العلمُ فيه مجازٌ عن التميـيز بطريق إطلاقِ اسمِ السببِ على المسبَّب أي ليُميِّزَ الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى: { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ } [آل عمران، الآية 179] أو هو على حقيقته معتبَرٌ من حيث تعلُّقُه بالمعلوم من حيث إنه موجودٌ بالفعل إذ هو الذي يدور عليه فلكُ الجزاءِ لا من حيث أنه موجودٌ بالقوة.

وإطلاقُ الإيمانِ مع أن المرادَ هو الرسوخُ والإخلاصُ فيه للإيذان بأن اسمَ الإيمانِ لا ينطلق على غيره، والالتفاتُ إلى الغَيبة بإسناده إلى اسم الذاتِ المستجمِعِ للصفات لتربـية المهابةِ والإشعارِ بأن صدورَ كلِّ واحدٍ مما يُذكر بصدد التعليلِ من أفعاله تعالى باعتبار منشإٍ معيّنٍ من صفاته تعالى مغايرٌ لمنشإ الآخَر، والجملةُ علةٌ لما هو فردٌ من أفراد مُطلقِ المداولةِ التي نطقَ بها قولُه تعالى: { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } من المداولة المعهودةِ الجاريةِ بـين فريقي المؤمنين والكافرين، واللامُ متعلقةٌ بما دل عليه المطلقُ من الفعل المقيَّدِ بالوقوع بـين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعلِ المطلقِ باعتبار وقوعِه بـينهما، والجملةُ معطوفةٌ على علة أخرى لها معتبرةٍ إما على الخصوص والتعيـينِ محذوفة لدَلالة المذكورةِ عليها لكونها من مبادئها، كأنه قيل: نداولها بـينكم وبـين عدوِّكم ليظهرَ أمرُكم وليَعلَمَ الخ، فإن ظهورَ أعمالِهم وخروجَها من القوة إلى الفعل من مبادىء تميـيزِهم عن غيرهم ومواجبِ تعلّقِ العلمِ الأزليِّ بها من تلك الحيثيةِ، وكذا الحالُ في باب التمثيل فتأملْ. وإما على العموم والإبهامِ للتنبـيه على أن العللَ غيرُ منحصِرَةٍ فيها عُدِّد من الأمور وأن العبدَ يسوؤه ما يجري عليه من النوائب، ولا يشعُر بأن الله تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفيةِ ما لا يخطرُ ببال. كأنه قيل: نداولُها بـينكم ليكونَ من المصالح كيت وكيت وليَعلَمَ الخ، وفيه من تأكيد التسليةِ ومزيدِ التبصِرَة ما لا يخفى. وتخصيصُ البـيان بعلة هذا الفردِ من مطلقِ المداولةِ دون سائر أفرادِها الجاريةِ فيما بـين بقيةِ الأممِ ــ تعيـيناً أو إبهاماً ــ لعدم تعلقِ الغرضِ العلميِّ ببـيانها ولك أن تجعلَ المحذوفَ المبْهَمَ عبارةً عن علل سائرِ أفرادِها للإشارة إجمالاً إلى أن كلَّ فردٍ من أفرادها له علةٌ داعيةٌ إليه كأنه قيل: نداولها بـين الناس كافةً ليكونَ كيت وكيت من الحِكَم الداعيةِ إلى تلك الأفرادِ وليَعلمَ الخ، فاللامُ الأولى متعلقةٌ بالفعل المطلقِ باعتبار تقيُّدِه بتلك الأفرادِ، والثانيةُ باعتبار تقيّدِه بالفرد المعهودِ، وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ تقديرُه وليعلمَ الله الذين آمنوا فَعَل ذلك.

{ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } جمعُ شهيدٍ أي ويُكرِمَ ناساً منكم بالشهادة، وهم شهداءُ أحُدٍ. فمِنْ ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ متعلقةٌ بـيتخذ، أو بمحذوف وقعَ حالاً من شهداءَ أو جمعُ شاهدٍ أي ويتخذ منكم شهوداً معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبرِ على الشدائد وغيرِ ذلك من شواهد الصدقِ ليشهدوا على الأمم يومَ القيامةِ، فمِنْ بـيانيةٌ لأن تلك الشهادةَ وظيفةُ الكلِّ دون المستشهَدين فقط، وأياً ما كان ففي لفظ الاتخاذ ـــــ المُنْبىءِ عن الاصطفاء والتقريبِ من تشريفهم وتفخيمِ شأنِهم ــ ما لا يخفى. وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } اعتراضٌ مقررٌ لمضمون ما قبله، ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريضٌ بمحبته تعالى لمقابليهم، والمرادُ بهم إما غيرُ الثابتين على الإيمان فالتقريرُ من حيث إن بغضَه تعالى لهم من دواعي إخراجِ المخلِصينَ المصطَفَيْنَ للشهادة من بـينهم، وإما الكفرةُ الذين أُديل لهم، فالتقريرُ من حيث إن ذلك ليس بطريق النُصرةِ لهم، فإنها مختصةٌ بأوليائه تعالى، بل لِما ذُكر من الفوائد العائدةِ إلى المؤمنين.