خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ
١٥٠
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ
١٥١
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ بَلِ ٱللَّهُ مَوْلَـٰكُمْ } إضرابٌ عما يُفهم من مضمون الشرطيةِ كأنه قيل: فليسوا أنصارَكم حتى تطيعوهم بل الله ناصرُكم لا غيرُه فأطيعوه واستعينوا به عن موالاتهم، وقرىء بالنصب كأنه قيل: فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله و{ مَوْلَـٰكُمْ } نُصب على أنه صفةٌ له { وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّـٰصِرِينَ } فخُصّوه بالطاعة والاستعانة { سَنُلْقِى } بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ جرياً على سَنن الكبرياءِ لتقوية المهابةِ، وقرىء بالياء والسين لتأكيد الإلقاءِ { فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } بسكون العين وقرىء بضمها على الأصل وهو ما قُذف في قلوبهم من الخوف يوم أحُد حتى تركوا القتالَ ورجعوا من غير سببٍ، ولهم القوةُ والغلبة، وقيل: ذهبوا إلى مكةَ فلما كانوا ببعض الطريقِ قالوا: ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجِعوا فاستأصِلوهم فعند ذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم الرُّعْبَ فأمسكوا. فلا بد من كون نزولِ الآيةِ في تضاعيف الحربِ أو عَقيب انقضائِها، وقيل: هو ما أُلقيَ في قلوبهم من الرعب يومَ الأحزاب { بِمَا أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ } متعلقٌ بنُلقي دون الرعب، وما مصدرية أي بسبب إشراكِهم به تعالى فإنه من موجبات خِذْلانِهم ونصرِ المؤمنين عليهم، وكلاهما من دواعي الرعب { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ } أي بإشراكه { سُلْطَـٰناً } أي حجةً سمِّيت به لوضوحها وإنارتها أو لقوّتها أو لحِدّتها ونفوذِها، وذكرُ عدمِ تنزيلِها مع استحالة تحققِها في نفسها من قبـيل قوله: [السريع]

[لا تُفزِعِ الأرنب أهوالُها] ولا ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ

أي لا ضبَّ ولا انجحارَ، وفيه إيذانٌ بأن المتَّبعَ في الباب هو البرهانُ السماويُّ دون الآراءِ والأهواءِ الباطلة.

{ وَمَأْوَاهُمُ } بـيانٌ لأحوالهم في الآخرة إثرَ بـيانِ أحوالِهم في الدنيا وهي الرعبُ أي ما يأوون إليه في الآخرة { ٱلنَّارُ } لا ملجأَ لهم غيرَها { وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي مثواهم وإنما وُضع موضعَه المظهرُ المذكورُ للتغليظ والتعليلِ والإشعارِ بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعِه، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس مثوى الظالمين النارُ وفي جعلها مثواهم بعد جعلِها مأواهم نوعُ رمزٍ إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكانُ الإقامةِ المنبئة عن المُكثْ وأما المأوى فهو المكانُ الذي يأوي إليه الإنسان { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } نُصب على أنه مفعولٌ ثانٍ لصَدَق صريحاً، وقيل: بنزع الجارِّ أي في وعده نزلت حين قال ناسٌ من المؤمنين عند رجوعِهم إلى المدينة: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر؟ وهو ما وعدهم على لسان نبـيِّه عليه السلامُ من النصر حيث قال للرماة: "لا تبرَحوا مكانَكم فلن نزال غالبـين ما ثبتُّم مكانَكم" وفي رواية أخرى: "لا تبرَحوا عن هذا المكانِ فإنا لا نزال غالبـين ما دمتم في هذا المكان" وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماةُ يرشُقونهم والباقون يضرِبونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتُلونهم قتلاً ذريعاً وذلك قوله تعالى: { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي تقتُلونهم قتلاً كثيراً فاشياً، من حسَّه إذا أبطل حِسَّه وهو ظرفٌ لصدقكم وقوله تعالى: { بِإِذْنِهِ } أي بتيسيره وتوفيقِه لتحقيق أنّ قتلَهم بما وعدهم الله تعالى بالنصر، وقيل: هو ما وعدهم بقوله تعالى: { { إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } [آل عمران، الآية 125] الآية، وقد مر تحقيقُ أن ذلك كان يومَ بدر كيف لا والموعودُ بما ذكر إمدادُه عز وجل بإنزال الملائكةِ عليهم السلام، وتقيـيدُ صدقِ وعدِه تعالى بوقت قتلِهم بإذنه تعالى صريحٌ في أن الموعودَ هو النصرُ المعنويُّ والتيسيرُ، لا الإمدادُ بالملائكة، وقيل: هو ما وعده تعالى بقوله: { سَنُلْقِى } [آل عمران، الآية: 151] الخ، وأنت خبـيرٌ بأن إلقاءَ الرعبِ كان عند تركِهم القتالَ ورجوعِهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف [في] الروايتين وأياً ما كان فلا سبـيل إلى كونه مُغياً بقوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جبُنتم وضعُف رأيُكم أو مِلتم إلى الغنيمة، فإن الحرصَ من ضعف القلب { وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلأَمْرِ } فقال بعضُ الرماةِ حين انهزم المشركون وولَّوْا هاربـين والمسلمون على أعقابهم قتلاً وضرباً: فما موقفُنا هٰهنا بعد هذا؟ وقال أميرُهم عبدُ اللَّه بنُ جبـيرٍ رضي الله عنه: لا نخالف أمرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فثبت مكانه في نفر دون العشرةِ من أصحابه ونفَرَ الباقون للنهب وذلك قوله تعالى: { وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } أي من الظفر والغنيمةِ وانهزامِ العدوِّ، فلما رأى المشركون ذلك حَملوا عليهم من قبل الشِّعْبِ وقتلوا أميرَ الرماةِ ومن معه من أصحابه حسبما فُصِّل في تفسير قولِه تعالى: { { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران، الآية 144] وجوابُ إذا محذوفٌ وهو منعُكم نصْرَه، وقيل: امتَحَنكم، ويردُّه جعلُ الابتلاءِ غايةً للصَّرْف المترتِّبِ على منع النصرِ، وقيل: هو: انقسمتم إلى قسمين كما ينبىء عنه قوله تعالى: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين تركوا المركزَ وأقبلوا على النهب { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } وهم الذين ثبتوا مكانَهم حتى نالوا شرفَ الشهادة.

هذا على تقدير كونِ إذا شرطيةً وحتى ابتدائيةً داخلةً على الجملة الشرطيةِ، وقيل: { إِذَا } اسمٌ كما في قولهم: إذا يقوم زيد يقوم عمرو، و{ حَتَّىٰ } حرفُ جرٍ بمعنى إلى المتعلقة بقوله تعالى: { صَدَقَكُمُ } [آل عمران، الآية: 152] باعتبار تضمُّنِه لمعنى النصرِ كأنه قيل: لقد نصركم الله إلى وقت فشلِكم وتنازُعِكم الخ، وعلى هذا فقولُه تعالى: { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } حتى حالت الحالُ ودالت الدولةُ، وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى، { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي يعاملَكم معاملةَ من يمتحنكم بالمصائب ليَظهرَ ثباتُكم على الإيمان عندها { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } تفضّلاً، ولِمَا علم من ندمكم على المخالفة { وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } تذيـيلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ومؤْذِنٌ بأن ذلك العفوَ بطريق التفضّلِ والإحسانِ لا بطريق الوجوبِ عليه، أي شأنُه أن يتفضلَ عليهم بالعفو أو هو متفضلٌ عليهم في جميع الأحوالِ أديل لهم أو أُديل عليهم، إذ الابتلاءُ أيضاً رحمةٌ، والتنكيرُ للتفخيم، والمرادُ بالمؤمنين إما المخاطبون، والإظهارُ في موقع الإضمارِ للتشريفِ والإشعارِ بعلة الحُكم، وإما الجنس وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً.