خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٩١
لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٩٢
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } لمّا كان الموتُ على الكفر سبباً لامتناع قبولِ الفِديةِ زيدت الفاءُ هٰهنا للإشعار به، وملءُ الشيءِ ما يُملأ به، وذهباً تميـيزٌ وقرىء بالرفع على أنه بدلٌ من ملء، أو خبرٌ لمحذوفِ { وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ } محمولٌ على المعنى، كأنه قيل: فلن يُقبل من أحدهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرضِ ذهباً أو معطوف على مضمر تقديرُه فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، أو المرادُ ولو افتدى بمثلِه كقوله تعالى: { { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [الزمر، الآية 47] والمِثلُ يحذف ويراد كثيراً لأن المِثلَين في حكم شيءٍ واحد { أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بالصفات الشنيعةِ المذكورة { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلمٌ. اسمُ الإشارةِ مبتدأ والظرفُ خبرُه ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذابٌ أليم على الفاعلية { وَمَا لَهُم مّن نَّـٰصِرِينَ } في دفع العذابِ عنهم أو في تخفيفه، و{ مِنْ } مزيدةٌ للاستغراق، وصيغةُ الجمعِ لمراعاة الضميرِ أي ليس لواحد منهم ناصرٌ واحد.

{ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ } مِنْ ناله نيلاً إذا أصابه، والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبـيان ما ينفعُ المؤمنين ويُقبلُ منهم إثرَ بـيانِ ما لا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل منهم. أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه { حَتَّىٰ تُنفِقُواْ } أي في سبـيل الله عز وجل رغبةً فيما عنده، و{ مِنْ } في قوله تعالى: { مِمَّا تُحِبُّونَ } تبعيضيّة ويؤيده قراءةُ من قرأ بعضَ ما تحبون، وقيل: بـيانيةٌ و{ مَا } موصولةٌ أو موصوفة، أي مما تهوَوْن ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى: { { أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ } [البقرة، الآية 267] أو مما يعُمّها وغيرَها من الأعمال والمُهَج، على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ ما لا يخفى، وكان السلفُ رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل، ورُوي أنها لما نزلت "جاء أبو طلحةَ فقال: يا رسولَ الله إن أحبَّ أموالي إليَّ بَـيْرحاءُ فضعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله، فقال عليه السلام: بخٍ بخٍ ذاك مالٌ رائجٌ أو رابحٌ وإني أرى أن تجعلَها في الأقربـين" ، فقسَمها في أقاربه، "وجاء زيدُ بنُ حارثةَ بفرسٍ له كان يحبُّها فقال: هذه في سبـيل الله فحمل عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ في نفسه وقال: إنما أردتُ أن أتصدقَ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن الله تعالى قد قبِلها منك" . قيل: وفيه دَلالةٌ على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ. وكتب عمرُ رضي الله عنه إلى أبـي موسى الأشعريِّ أن يشتريَ له جاريةً من سبْـي جَلولأَ يوم فُتِحت مدائنُ كِسْرىٰ فلما جاءت إليه أعجبتْه فقال: إن الله تعالى يقول: { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران، الآية 92] فأعتقها، وروي أن عمرَ بنَ عبد العزيز كانت لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه، ثم لما وليَ الخِلافةَ زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت: قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمنين فلتخدُمْك، قال: من أين ملكتِها، قالت: جئتُ بها من بـيت أبـي عبدِ الملك، ففتش عن كيفية تملُّكِها إياها، فقيل: إنه كان على فلانٍ العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته، ففتش عن حال العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً، فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى، فقالت: لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ شُبهة؟ قال: لستُ إذن ممن نهىٰ النفسَ عن الهوى. { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء } ما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبةٌ به على المفعولية ومن تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لاسم الشرطِ، أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا كائناً من الأشياء، فإن المفردَ في مثل هذا الموضعِ واقعٌ موقعَ الجمعِ، وقيل: محلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التميـيز أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا طيباً تحبُّونه أو خبـيثاً تكرَهونه، { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ موقِعَه، أي فمجازيكم يحسَبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى عليمٌ بكل شيءٍ تُنفِقونه علماً كاملاً بحيث لا يخفىٰ عليه شيءٌ من ذاته وصفاته، وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصلِ، وفيه من الترغيب في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن إنفاق الرديء ما لا يخفى.