خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
١٩
-سبأ

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وقُرىء يا ربَّنا. بطروا النِّعمةَ وسئِمُوا أطيبَ العيشِ وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتَّعبَ كما طلب بنو إسرائيلَ الثوم والبصل مكان المنِّ والسَّلوى وقالوا لو كان جنَى جنّاتِنا أبعدَ لكان أجدرَ أن نشتهيَه وسألوا أنْ يجعل الله تعالى بـينهم وبـين الشأمِ مفاوزَ وقفاراً ليركبُوا فيها الرَّواحل ويتزوَّدوا الأزواد ويتطاولُوا فيها على الفقراء فعجَّل الله تعالى لهم الإجابةَ بتخريب تلك القُرى المتوسطة وجعلها بَلْقَعاً لا يُسمع فيها داعٍ ولا مجيبٌ. وقرىء ربنا بعِّدْ بـين أسفارنا وبعُدَ بـينُ أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بـين ورفعه به، كما يقال سير فرسخان وبُوعد بـين أسفارِنا وقرىء ربنا باعد بـين أسفارنا وبـين سفرِنا وبعَّد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعادُ مسايرهم مع قِصرها أو دنوِّها وسهولة سلوكها لفرطِ تنعُّمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنَّهم يتشاجَون على الله تعالى ويتحازنون عليه { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } حيث عرَّضُوها للسَّخطِ والعذاب حين بطروا النِّعمةَ أو غمطُوها { فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ } أي جلعناهم بحيث يتحدثُ النَّاسُ بهم متعجِّبـين من أحوالَهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلِهم { وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرَّقناهم كلَّ تفريقٍ على أنَّ المُمزَّقَ مصدرٌ، أو كلَّ مطرحِ ومكانِ تفريقٍ، على أنه اسم مكان، وفي عبارة التَّمزيقِ الخاص بتفريق المتَّصل وخرقه من تهويل الأمرِ والدِّلالةِ على شدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ ما لا يخفى أي مزَّقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه بحيث يُضرب به الأمثال في كلِّ فُرقة ليس بعدها وصالٌ حتى لحق غسَّانُ بالشَّأمِ وأنمارٌ بـيثربَ وجُذامُ بتهامةَ والأزدُ بُعمانَ. وأصلُ قصَّتهم على ما رواه الكلبـيُّ عن أبـي صالحٍ أنَّ عمروَ بن عامرِ من أولاد سبأٍ وبـينهما اثنا عشر أباً وهو الذي يُقال له مُزَيْقِيا بنُ ماءِ السَّماءِ أَخبرتْهُ طريفةُ الكاهنةُ بخراب سدِّ مأربَ وتفريق سيل العرم الجنَّتين. وعن أبـي زيد الأنصاريِّ أنَّ عَمراً رأى جُرَذاً يحفرُ السَّدَّ فعلم أنَّه لا بقاءَ له بعدُ، وقيل: إنَّه كان كاهناً وقد عَلمه بكهانتِه فباع أملاكَه وسار بقومه وهم ألوفٌ من بلد إلى بلد حتى انتهى إلى مكَّة المعظَّمة وأهلها جُرهمٌ وكانوا قهروا النَّاسَ وحازوا ولايةَ البـيت على بني إسماعيلَ عليه السَّلامُ وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبةَ بن عمرو بن عامر يسألُهم المقام معهم إلى أنْ يرجع إليه رُوَّادُه الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعاً يسَعه ومَن معه من قومه فأبَوا فاقتتلُوا ثلاثةَ أيَّامٍ فانهزمت جُرهمٌ ولم يفلت منهم إلا الشَّريدُ وأقام ثعلبةُ بمكَّةَ وما حولها في قومِه وعساكرِه حولاً فأصابْتُهم الحُمَّى فاضطرُوا إلى الخروج وقد رجع إليه رُوَّادُه فافترقوا فرقتينُ فرقةٌ توجَّهت نحو عُمانَ وهم الأُزد وكندة وحِمْيرُ ومَن يتلوهم وسار ثعلبةُ نحو الشَّامِ فنزل الأوسُ والخزرجُ ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ بالمدينةِ وهم الأنصارُ ومضت غسَّانُ فنزلوا بالشَّأمِ وانخزعتْ خزاعة بمكَّةَ فأقام بها ربـيعةُ بن حارثةَ بنِ عمروِ بنِ عامرٍ وهو لحيُّ فولِي أمرَ مكَّةَ وحجابةَ البـيتِ ثم جاءهم أولادُ إسماعيل عليه السَّلامُ فسألوهم السُّكنى معهم وحولهم فأذِنُوا لهم في ذلك. ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ فروةَ بن مُسيكٍ الغطيفي سأل النبـيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام عن سبأٍ فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو رجلٌ كان له عشرةُ أولاد ستَّةٌ منهم سكنُوا اليمنَ وهم مَذْحِجُ وكِنْدةُ والأَزدُ والأشعريُّون وحِمْيَرُ وأَنمارٌ منهم بَجِيلةُ وخَثْعَمُ وأربعةٌ منهم سكنُوا الشّأَمَ وهم لَخْمٌ وجُذَامٌ وعَامِلةُ وغَسَّانُ لما هلكتْ أموالُهم وخربتْ بلادُهم تفرَّقُوا أَيْدِي سَباً شَذَرَ مَذَرَ فنزلتْ طوائفُ منهم بالحجاز فمنهم خُزَاعةُ نزلزوا بظاهر مكَّةَ ونزلتِ الأوسُ والخزرجُ بـيثربَ فكانوا أوَّلَ مَن سكنها ثم نزل عندهم ثلاثُ قبائلَ من اليهَّودِ بنُو قَينُقاعَ وبنُو قُريظَة والنَّضيرِ فحالفوا الأوسَ والخزرجَ وأقاموا عندهم ونزلتْ طوائفُ أُخر منهم بالشأمِ وهم الذين تنصَّروا فيما بعد وهم غسَّانُ وعَاملةُ ولَخْمٌ وجُذَامٌ وتَنْوخُ وتَغْلِبُ وغيرُهم، وسَبَأٌ تجمعُ هذه القبائلَ كلَّها والجمهورُ على أنَّ جميعَ العرب قسمانِ قحطانيّةُ، وعدنانيَّةُ، والقحطانيَّةُ شعبانِ سبأٌ وحَضْرمَوْتَ والعدنانَّيةُ شعبانِ رَبـيعةُ ومُضَرُ وأما قُضَاعةُ فمختلفٌ فيها فبعضهم ينسبونَها إلى قَحْطانَ وبعضُهم إلى عدنانَ والله تعالى أعلم.

{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من قصَّتهم { لآيَاتٍ } عظيمةً { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي شأنه الصَّبرُ عن الشَّهواتِ ودواعي الهَوَى وعلى مشاقِّ الطَّاعاتِ والشُّكرُ على النِّعمِ. وتخصيصُ هؤلاء بذلك لأنهم المُنتفعون بها.