خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
٢
أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ
٣
-الزمر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

(سورة الزمر مكية إلا قوله { قل يا عبادي } الآية وآياتها خمس وسبعون آية)

{ بِسْمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيم } { تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ } خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ هو اسم إشارة أُشير به إلى السُّورةِ تنزيلاً لها منزلةَ الحاضر المُشارِ إليه لكونها على شرف الذِّكرِ والحضورِ كما مرَّ مراراً. وقد قيل هو ضميرٌ عائد إلى الذِّكرِ في قوله تعالى: { { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَـٰلَمِينَ } [سورة الأنعام: الآية 90] وقوله تعالى: { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } صلة للتَّنزيلِ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من التَّنزيلِ عاملُها معنى الإشارة أو من الكتابِ الذي هو مفعولٌ معنى، عاملُها المضاف، وقيل هو خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ، والوجهُ الأَوَّلُ أو في بمقتضى المقامِ الذي هو بـيانُ أنَّ السُّورةَ أو القُرآنَ تنزيلُ الكتابِ من الله تعالى لا بـيانُ أنَّ تنزيلَ الكتابِ منه تعالى لا من غيرِه كما يفيده الوجهُ الأخيرُ. وقُرىء تنزيلَ الكتابِ بالنَّصبِ على إضمار فعلٍ نحو اقرأْ أو الزمْ. والتَّعرُّضُ لوصفَيْ العزَّةِ والحكمة للإيذانِ بظهور أثريهما في الكتابِ بجريانِ أحكامِه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مُدافعٍ ولا ممانع، وبابتناءِ جميع ما فيه على أساس الحِكَمِ الباهرةِ. وقولُه تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ } شروعٌ في بـيان شأن المنزَّلِ إليه وما يجبُ عليه إثرَ بـيانِ شأن المنَّزلِ وكونِه من عند الله تعالى، والمرادُ بالكتاب هو القُرآنُ وإظهاره على تقدير كونِه هو المرادَ بالأَوَّلِ أيضاً لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنِه. والباء إمَّا متعلِّقةٌ بالإنزال أي بسبب الحقِّ وإثباته وإظهارِه أو بداعية الحقِّ واقتضائه للإنزالِ وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من نون العظمةِ أو من الكتاب أو أنزلناهُ إليك محقِّين في ذلك أو أنزلناه مُلتبِساً بالحقِّ والصواب أي كلُّ ما فيه حقٌّ لا ريبَ فيه موجبٌ للعمل به حَتْماً. والفاءُ في قوله تعالى: { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدّينِ } لترتيب الأمر بالعبادة على إنزالِ الكتاب إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ أي فاعبْدُه تعالى ممُحِّضاً له الدِّينَ من شوائب الشِّركِ والرِّياءِ حسبما بُـيِّن في تضاعيف ما أُنزل إليك. وقُرىء برفع الدِّينِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظَّرفُ المقدَّمُ عليه لتأكيد الاختصاصِ المُستفاد من اللاَّمِ. والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً للأمر بإخلاصِ العبادةِ. وقوله تعالى: { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ } استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله من الأمرِ بإخلاص الدِّينِ له تعالى، ووجوبِ الامتثالِ به. وعلى القراءةِ الأخيرةِ مؤكِّدٌ لاختصاصِ الدِّينِ به تعالى أي أَلاَ هو الذي يجبُ أنْ يُخصَّ بإخلاصِ الطَّاعةِ له لأنَّه المُتفرِّدُ بصفاتِ الأُلوهيَّةِ التي من جُملتها الاطِّلاعُ على السَّرائرِ والضَّمائرِ. وقولُه تعالى:

{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } تحقيقٌ لحقِّيةِ ما ذُكر من إخلاص الدِّينِ الذي هو عبارةٌ عن التَّوحيدِ ببـيان بُطلان الشِّركِ الذي هو عبارةٌ عن ترك إخلاصِه، والموصولُ عبارةٌ عن المُشركين ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما سيأتي من الجُملةِ المُصدَّرةِ بأنْ. والأولياءُ عن الملائكةِ وعيسى عليهم السَّلامُ والأصنامِ. وقولُه تعالى: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } حالٌ بتقدير القَول من واوِ اتَّخذوا مبنيةٌ لكيفيَّةِ إشراكِهم وعدمِ خُلوصِ دينهم. والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العلل. وزُلْفى مصدرٌ مؤكَّدٌ على غير لفظِ المصدرِ ملاقٍ له في المعنى أي والذينَ لم يُخلصوا العبادةَ لله تعالى بل شابُوها بعبادةِ غيره قائلين ما نعبدُهم لشيءٍ من الأشياءِ إلا ليقرِّبونا إلى الله تعالى تقريباً. { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي وبـين خصمائِهم الذين هم المُخلِصون للدِّين. وقد حُذفَ لدلالةِ الحالِ عليه كما في قولِه تعالى: { { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [سورة البقرة: الآية 285] على أحدِ الوجهينِ أي بـين أحدٍ منهم وبـين غيرِه وعليه قول النَّابغةِ: [الطويل]

فمَا كانَ بـينَ الخيرِ لو جاءَ سالماأبُو حَجَرٍ إلاَّ ليالٍ قلائلُ

أي بـين الخيرِ وبـينِي وقيل: ضيمر بـينَهم للفريقينِ جميعاً { فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدِّين الذي اختلفُوا فيه بالتَّوحيد والإشراكِ وادَّعى كلُّ فريقٍ منهم صحَّةَ ما انتحله وحكمُه تعالى في ذلك إدخالُ الموحِّدينَ الجنَّةَ والمشركين النَّارَ فالضَّميرُ للفريقينِ هذا هو الذي يستدعيِه مساقُ النَّظمِ الكريم، وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ الموصول عبارةً عن المعبودينَ على حذف العائد إليه وإضمارِ المشركينَ من غير ذكر تعويلاً على دلالة المساقِ عليهم، ويكون التَّقديرُ والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ قائلين ما نعبُدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله إنَّ الله يحكم بـينهم أي بـين العَبَدةِ والمعبودينَ فيما هم فيه يختلفُون حيثُ يرجُو العَبَدةُ شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاءِ عمَّا فيه من التَّعسُّفاتِ بمعزل من السَّدادِ، كيف لا وليس فيما ذُكر من طلب الشَّفاعةِ واللَّعنِ مادَّةٌ يختلفُ فيها الفريقانِ اختلافاً مُحوِجاً إلى الحكمِ والفصلِ وإنَّما ذاك ما بـين فريقَيْ الموحِّدينَ والمشركينَ في الدُّنيا من الاختلاف في الدِّينِ الباقي إلى يوم القيامة. وقُرىء قالُوا ما نعبدُهم فهو بدلٌ من الصِّلةِ ولا خبرٌ للموصول كما قيل إذ ليس في الإخبارِ بذلك مزيدُ مزيِّةٍ. وقُرىء ما نعبدكم إلاَّ لتُقرِّبونا حكايةً لما خاطبُوا به آلهتَهم. وقُرىء نعبدُهم إتباعاً للباء{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى } أي لا يُوفِّقُ للاهتداءِ إلى الحقِّ الذي هو طريقُ النَّجاةِ عن المكروهِ والفوزُ بالمطلوبِ { مَنْ هُوَ كَـٰذِبٌ كَـفَّارٌ } أي راسخٌ في الكذبِ مبالغٌ في الكُفرِ كما يُعربُ عنه قراءةُ كذَّاب وكَذُوب فإنَّهما فاقدانِ للبصيرةِ غيرُ قابلينِ للاهتداءِ لتغيـيرهما الفطرةَ الأصليَّةَ بالتَّمرُّنِ في الضَّلالةِ والتَّمادِي في الغِيِّ. والجملةُ تعليلٌ لما ذُكر من حكمه تعالى.