خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
١
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم }


سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية

{ يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } خطابٌ يعمُّ حكمُه جميعَ المكلفين عند النزولِ ومَنْ سينتظِمُ في سلكهم من الموجودين حينئذٍ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامةِ عند انتظامِهم فيه لكنْ لا بطريق الحقيقةِ فإن خطابَ المشافهةِ لا يتناول القاصرين عن درجة التكليفِ إلا عند الحنابلةِ بل إما بطريق تغليبِ الفريقِ الأولِ على الأخيرين وإما بطريق تعميمِ حُكمِه لهما بدليل خارجيَ فإن الإجماعَ منعقدٌ على أن آخِرَ الأمةِ مكلفٌ بما كُلّف به أولُها كما ينبىء عنه قولُه عليه السلام: "الحلالُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامةِ والحرامُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة" وقد فُصل في موضعه وأما الأممُ الدارجةُ قبل النزولِ فلا حظَّ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامرِ والنواهي بمن يُتصوَّر منه الامتثالُ، وأما اندراجُهم في خطاب ما عداهما مما له دخلٌ في تأكيد التكليفِ وتقويةِ الإيجابِ فستعرِفُ حالَه، ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً، وأما صيغةُ جمعِ المذكرِ في قوله تعالى: { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } فواردةٌ على طريقة التغليب لعدم تناولِها حقيقةً للإناث عند غيرِ الحنابلة، وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذُكر من الدليل الخارجيِّ وإن كان فيه مراعاةُ جانبِ الصيغةِ لكنه يستدعي تخصيصَ لفظِ النَّاسِ ببعض أفرادِه. والمأمورُ به إما مطلقُ التقوى التي هي التجنبُ عن كل ما يؤثِمُ من فعلٍ أو تركٍ وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناءِ الجنسِ أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو في مخالفة تكاليفه الواردةِ هٰهنا.

وأيًّا ما كان فالتعرضُ لعنوان الربوبـيةِ المنبئةِ عن المالكية والتربـيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطبـين لتأيـيد الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به على طريقة الترغيبِ والترهيبِ، وكذا وصفُ الرب بقوله تعالى: { ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ } فإن خلْقَه تعالى إياهم على هذا النمطِ البديعِ لإنبائه عن قدرة شاملةٍ لجميع المقدوراتِ التي من جُملتها عقابُهم على معاصيهم وعن نعمة كاملةٍ لأقدارها ــ من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمتهِ وأتمِّ الزواجرِ عن كُفران نعمته، وكذا جعلُه تعالى إياهم صِنواناً مُفرَّعةً من أرومةٍ واحدة هي نفسُ آدمَ عليه السلام من موجبات الاحترازِ عن الإخلال بمراعاة ما بـينهم من حقوق الأخوةِ. وتعميمُ الخطابِ في ربّكم وخلقَكم للأمم السالفة أيضاً ــ مع اختصاصه فيما قبلُ بالمأمورين بناءً على أن تذكيرَ شمولِ ربوبـيته تعالى وخلقِه للكل من مؤكِّدات الأمرِ بالتقوى وموجباتِ الامتثالِ به ــ تفكيك للنظم الكريمِ مع الاستغناء عنه، لأن خلقَه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كان بواسطة ما بـينهم وبـينه عليه السلام من الآباء والأمهاتِ كان التعرّضُ لخلقهم متضمِّناً للتعرّض لخلق الوسايطِ جميعاً، وكذا التعرضُ لربوبـيته تعالى لهم متضمِّنٌ للتعرض لربوبـيته تعالى لأصولهم قاطبةً لا سيما وقد نطقَ بذلك قوله عز وجل: { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } فإنه مع ما عُطف عليه صريحٌ في ذلك وهو معطوفٌ إما على مقدر ينبىءُ عنه سَوقُ الكلامِ لأن تفريغَ الفروعِ من أصل واحد يستدعي إنشاءَ ذلك الأصلِ لا محالة، كأنه قيل خلقكم من نفس واحدةٍ خلقها أولاً وخلق منها زوجَها إلخ وهو استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير وَحدةِ المبدأ وبـيانِ كيفيةِ خلْقِهم منه وتفصيلِ ما أُجمل أولاً، أو صفةٌ لنفسٍ مفيدةٌ لذلك، وإما على خلقَكم داخلٌ معه في حيز الصلةِ مقررٌ ومبـينٌ لما ذكر، وإعادةُ الفعلِ مع جواز عطفِ مفعوله على مفعول الفعلِ الأول كما في قوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة، الآية 21] الخ لإظهار ما بـين الخلقين من التفاوت، فإن الأولَ بطريق التفريعِ من الأصل والثاني بطريق الإنشاءِ من المادة، فإنه تعالى خلقَ حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السلام. روي أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النومَ فبـينما هو بـين النائمِ واليقظانِ خَلَق حواءَ من ضِلْع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده، وتأخيرُ ذكرِ خلقِها عن ذكر خلقِهم لما أن تذكيرَ خلقهم أدخلُ في تحقيق ما هو المقصودُ من حملهم على الامتـثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها، وتقديمُ الجار والمجرور للاعتناء ببـيان مبدئيتهِ عليه السلام لها مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مراراً، وإيرادُها بعنوان الزوجيةِ تمهيدٌ لما بعده من التناسل.

{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } أي نشرَ من تلك النفس وزوجها المخلوقةِ منها بطريقِ التوالدِ والتناسلِ { رِجَالاً كَثِيراً } نعتٌ لرجالاً مؤكّدٌ لما أفادَهُ التنكيرُ من الكثرةِ والإفرادِ باعتبار معنى الجمع أو العددِ وقيلَ هو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ للفعل أي بثاً كثيراً { وَنِسَاء } أي كثيرة، وتركُ التصريحِ بها للاكتفاء بالوصف المذكورِ، وإيثارُهما على ذكوراً وإناثاً لتأكيد الكثرةِ والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فردٍ من الأفراد المبثوثةِ لمبدئيّة غيره، وقرىء وخالقٌ وباثٌّ على حذف المبتدأ أي وهو خالقٌ وباث { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ } تكريرٌ للأمر وتذكيرٌ ببعض آخَرَ من موجبات الامتثالِ به فإن سؤالَ بعضِهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا أسألُك بالله وأنشُدك اللَّهَ على سبـيل الاستعطافِ يقتضي الاتقاءَ من مخالفة أوامرِه ونواهيه، وتعليقُ الاتقاءِ بالاسمِ الجليلِ لمزيد التأكيدِ والمبالغةِ في الحمل على الامتثال بتربـية المهابةِ وإدخالِ الروعةِ، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصلُه تتساءلون فطُرحت إحدى التاءين تخفيفاً، وقرىء بإدغام تاءِ التفاعلِ في السين لتقاربهما في الهمس وقرىء تَسْألون من الثلاثي أي تسألون به غيرَكم، وقد فسِّر به القراءةُ الأولى والثانية، وحملُ صيغةِ التفاعلِ على اعتبار الجمعِ كما في قولك رأيت الهلال وتراءياه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرىء تَسَلون بنقل حركةِ الهمزةِ إلى السين. { وَٱلأَرْحَامَ } بالنصب عطفاً على محل الجارِّ والمجرور كقولك مررتُ بزيد وعمراً وينصره قراءةُ تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرُنونها في السؤال والمناشدةِ بالله عز وجل، ويقولون أسألك بالله وبالرَّحمِ، أو عطفاً على الاسم الجليلِ أي اتقوا اللَّهَ والأرحامَ وصِلوها ولا تقطعوها فإن قطعيتها مما يجب أن يُتقّى وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة والسدي والضحاك والفراءِ والزجاج، وقد جَوّز الواحديُ نصبَه على الإغراء أي والزَموا الأرحامَ وصِلوها وقرىء بالجر عطفاً على الضمير المجرورِ وبالرفع على أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديره: والأرحامُ كذلك أي مما يُتقى أو يُتساءلُ به، وقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليلِ على أن صلتَها بمكان منه كما في قوله تعالى: { { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [الإسراء، الآية 23] وعنه عليه السلام: "الرحِمُ معلقةٌ بالعرش تقول: مَنْ وَصَلني وصله اللَّهُ ومَنْ قَطَعني قَطَعَهُ اللَّه" { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي مراقباً، وهي صيغةٌ من رقَب يرقُب رَقْباً ورُقوباً ورُقباناً إذا أحدّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه، أي حافظاً مطلعاً على جميع ما يصدُر عنك من الأفعال والأقوالِ وعلى ما في ضمائركم من النيات مُريداً لمجازاتكم بذلك، وهو تعليلٌ للأمر ووجوبِ الامتثالِ به، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتأكيده وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لرعاية الفواصل.