خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٨
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
١٩
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ } تصريحٌ بما فُهم من قصر القَبولِ على توبة من تاب من قريب، وزيادةُ تعيـينٍ له ببـيان أن توبةَ مَنْ عداهم بمنزلة العدمِ، وجمعُ السيئاتِ باعتبار تكررِ وقوعِها في الزمان المديدِ لا لأن المرادَ بها جميعُ أنواعِها وبما مرّ من السوء نوعٌ منها { حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلآنَ } حتى حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدها غايةٌ لما قبلها أي ليس قبولُ التوبةِ للذين يعملون السيئاتِ إلى حضور موتِهم وقولهم حينئذٍ إني تبتُ الآنَ، وذكرُ الآن لمزيد تعيـينِ الوقتِ، وإيثارُ قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبارِ والتحاشي عن تسميته توبةً { وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } عطفٌ على الموصول الذي قبله أي ليس قبولُ التوبةِ لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذُكر هؤلاء مع أنه لا توبةَ لهم رأساً مبالغةً في بـيان عدمِ قبولِ توبةِ المُسوِّفين وإيذاناً بأن وجودَها كعدمها بل في تكرير حرفِ النفيِ في المعطوف إشعارٌ خفيٌّ بكون حالِ المسوِّفين في عدم استتباعِ الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر، والمرادُ بالموصولَيْن إما الكفارُ خاصةً وإما الفساقُ وحدهم، وتسميتُهم في الجملة الحاليةِ كفاراً للتغليظ كما في قوله تعالى: { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [آل عمران، الآية 97] وأما ما يعمُّ الفريقين جميعاً فالتسميةُ حينئذٍ للتغليب، ويجوز أن يراد بالأول الفسقَةُ وبالثاني الكفرةُ، ففيه مبالغةٌ أخرى { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى الفريقين، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان بترامي حالهم في الفظاعة وبُعدِ منزلتِهم في السوء، وهو مبتدأٌ خبرُه { أَعْتَدْنَا لَهُمْ } أي هيأنا لهم { عَذَاباً أَلِيماً } تكريرُ الإسناد لما مر من تقوية الحُكمِ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بكون العذابِ مُعدًّا لهم ووصفُه للتفخيم الذاتي والوصفي.

{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً } كان الرَّجلُ إذا مات قريبُه يُلْقي ثوبَه على امرأته أو على خِبائها ويقول أَرِثُ امرأته كما أرث مالَه فيصير بذلك أحقَّ بها من كل أحدٍ ثم إن شاء تزوّجها بلا صَداقٍ غيرَ الصَّداقِ الأولِ وإن شاء زوَّجَها غيرَه وأخذ صَداقَها ولم يُعْطِها منه شيئاً وإن شاء عضَلها لتفتديَ نفسها بما ورِثَتْ من زوجها، وإن ذهبت المرأةُ إلى أهلها قبل إلقاءِ الثوبِ فهي أحقُّ بنفسها فنُهوا عن ذلك، وقيل لهم لا يحِلُّ لكم أن تأخُذوهن بطريق الإرثِ على زعمكم كما تُحازُ المواريثُ وهن كارهاتٌ لذلك أو مُكْرهاتٌ عليه، وقيل كانوا يُمسِكونهن حتى يَمُتْن ويرِثوا منهن فقيل لهم لا يحل لكم ذلك وهن غيرُ راضياتٍ بإمساككم، وقرىء لا تحِلُّ بالتاء الفوقيةِ على أنّ (أنْ ترثوا) بمعنى الوراثة، وقرىء كُرْهاً بضم الكاف وهي لغة كالضَّعْف والضُّعف، وكان الرجلُ إذا تزوج امرأةً ولم تكن من حاجته حَبَسها مع سوء العِشرةِ والقهرِ وضيَّقَ عليها لتفتديَ نفسَها منه بمالها وتختلِعَ فقيل لهم { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } عطفاً على ترِثوا و(لا) لتأكيد النفْي، والخطابُ للأزواج، والعضْلُ الحبسُ والتضيـيقُ ومنه عضَلت المرأةُ بولدها إذا اختنقت رحِمُها فخرج بعضُه وبقيَ بعضُه أي ولا أن تُضَيِّقوا عليهن { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } أي من الصَّداق بأن يدفعن إليكم بعضَه اضطراراً فتأخُذوه منهن، وإنما لم يُتعرَّضْ لفعلهن إيذاناً بكونه بمنزلة العدمِ لصدوره عنهن اضطراراً، وإنما عُبّر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبـيحه ببـيان تضمُّنِه لأمرين كلٌّ منهما محظورٌ شنيعُ الأخذِ والإذهابِ منهن، لأنه عبارةٌ عن الذهاب مستصحباً به { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } على صيغة الفاعلِ من بـيَّن بمعنى تَبـيَّن، وقرىء على صيغة المفعولِ وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبـين أي بـيِّنةِ القُبحِ: من النشوز وشكاسةِ الخلُقِ وإيذاءِ الزوجِ وأهلِه بالبَذاء والسَّلاطةِ، ويعضُده قراءة أُبـي إلا أن يُفْحِشْن عليكم، وقيل الفاحشة الزنا، وهو استثناءٌ من أعم الأحوالِ أو أعمِّ الأوقاتِ أو أعمِّ العللِ أي ولا يحلِ لكم عضْلُهن في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات أو لعلة من العِللِ إلا في حال إتيانِهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانِهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السببَ حينئذٍ يكون من جهتهن وأنتم معذورون في طلب الخُلْع.

{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } خطابٌ للذين يُسيئون العِشرةَ معهن، والمعروفُ ما لا يُنكِرُه الشرعُ والمروءةُ، والمرادُ هٰهنا النَّصَفَةُ في المبـيت والنفقةُ والإجمالُ في القول ونحو ذلك { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } وسئِمْتم صُحبتَهن بمقتضى الطبـيعةِ من غير أن يكون من قِبَلهن ما يوجب ذلك من الأمور المذكورةِ فلا تفارِقوهن بمجرد كراهةِ النفسِ واصبِروا على معاشرتهن { فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } علةٌ للجزاء أُقيمت مُقامه للإيذان بقوة استلزامِها إياه، كأنه قيل فإن كرِهتُموهن فاصبِروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرَهونه خيراً كثيراً ليس فيما تُحبّونه، وعسى تامةٌ رافعةٌ لما بعدها مُستغنيةٌ عن تقدير الخبرِ، أي فقد قرَّبتْ كراهتُكم شيئاً وجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً، فإن النفسَ ربما تكره ما هو أصلحُ في الدين وأحمدُ عاقبةً وأدنى إلى الخير، وتحبُّ ما هو بخلافه فليكنْ نظرُكم إلى ما فيه خيرٌ وصلاحٌ دون ما تهوى أنفسُكم، وذكرُ الفعلِ الأولِ مع الاستغناء عنه وانحصارُ العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعولِه ليُفيدَ أن ترتيبَ الخيرِ الكثيرِ من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروهٍ بل هو سنةٌ إلٰهيةٌ جاريةٌ على الإطلاق حسَبَ اقتضاءِ الحكمةِ، وأن ما نحن فيه مادةٌ من موادّها، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقةِ وتعميمِ الإرشادِ ما لا يخفى. وقرىء ويجعلُ مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، والجملةُ حاليةٌ تقديرُه وهو أي ذلك الشيءُ يجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً، وقيل تقديرُه واللَّهُ يجعل بوضع المُظهر موضِعَ المُضمرِ، وتنوينُ خيراً لتفخيمه الذاتي ووصفُه بالكثرة لبـيان فخامتِه الوصفيةِ والمرادُ بها هٰهنا الولدُ الصالحُ وقيل الأُلفةُ والمحبة.