خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
٣١
وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبْنَ وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٣٢
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } أي كبائرَ الذنوبِ التي نهاكم الشرعُ عنها مما ذكر هٰهنا وما لم يُذكرْ، وقرىء كبـيرَ على إرادة الجنسِ { نُكَفّرْ عَنْكُمْ } بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ، وقرىء بالياء بالإسنادِ إليه تعالى، والتكفيرُ إماطةُ المستحَقِّ من العقاب بثوابٍ أُريد أو بتوبة أي نغفِرْ لكم { سَيّئَاتِكُمْ } صغائرَكم ونمحُها عنكم، قال المفسرون: «الصلاةُ إلى الصلاة والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بـينهن من الصغائر إذا اجتُنِبَت الكبائرُ». واختلف في الكبائر والأقربُ أن الكبـيرةَ كلُّ ذنبٍ رتّب الشارعُ عليه الحدَّ أو صرح بالوعيد فيه، وقيل: ما عُلم حرمتُه بقاطع، وعن النبـي صلى الله عليه وسلم أنها سبعٌ: " الإشراكُ بالله تعالى وقتلُ النفسِ التي حرمها الله تعالى وقذفُ المحصناتِ وأكلُ مالِ اليتيمِ والربا والفِرارُ من الزحف وعقوقُ الوالدين" . وعن علي رضي الله عنه: التعقيبُ بعد الهجرةِ مكان عقوقِ الوالدين، وزاد ابنُ عمر رضي الله عنهما: السحرَ واستحلالَ البـيتِ الحرامِ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: الكبائر سبعٌ، قال: هي إلى سبعمائةٍ أقربُ منها إلى سبع، وروي عنه إلى سبعين إذْ لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبـيرةَ مع الاستغفار، وقيل: أريد به أنواعُ الشركِ لقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } وقيل: صِغرُ الذنوب [وكِبَرُها] بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلِها [فقط] بل بحسب الأوقاتِ والأماكنِ أيضاً، فأكبرُ الكبائرِ الشركُ وأصغرُ الصغائرِ حديثُ النفسِ، وما بـينهما وسائطُ يصدُق عليه الأمران فمن له أمرانِ منهما ودعت نفسُه إليهما بحيث لا يتمالك فكفّها عن أكبرهما كُفّر عنه ما ارتكبه لِما استحق على اجتناب الأكبرِ من الثواب { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً } بضم الميم اسمُ مكانٍ هو الجنة { كَرِيماً } أي حسَناً مَرْضياً أو مصدرٌ ميميٌّ أي إدخالاً مع كرامةً، وقرىء بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكانَ والمصدر، ونصبُه على الثاني بفعل مقدرٍ مطاوِعٍ للمذكور أي ندخلكم فتدخلون مدخلاً أو دخولاً كريماً كما في قوله: [الطويل]

وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَعمن المال إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ

أي لم تدع فلم يبْقَ إلا مسحتٌ الخ.

{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي عليكم، ولعل إيثارَ الإبهامِ عليه للتفادي عن المواجهة بما يشُقُّ عليهم. قال القفال: لما نهاهم الله تعالى عن أكل أموالِ الناسِ بالباطل وقتلِ الأنفسِ عقّبه بالنهي عما يؤدّي إليه من الطمع في أموالهم وتمنّيها، وقيل: نهاهم أولاً عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرّض لها بالقلب على سبـيل الحسدِ لتطهير أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ فالمعنى لا تتمنَّوْا ما أعطاه الله تعالى بعضَكم من الأمور الدنيويةِ كالجاه والمالِ وغيرِ ذلك مما يجري فيه التنافسُ دونكم فإن ذلك قسمةٌ من الله تعالى صادرةٌ عن تدبـير لائقٍ بأحوال العبادِ مترتبٍ على الإحاطة بجلائلِ شؤونِهم ودقائقِها فعلى كلّ أحدٍ من المفضّل عليهم أن يرضىٰ بما قسم الله له ولا يتمنى حظَّ المفضَّلِ ولا يحسُده عليه لما أنه معارَضةٌ لحكمِ القدرِ المؤسسِ على الحِكَم البالغةِ لا لأن عدمَه خيرٌ له ولا لأنه لو كان خلافَه لكان مفسدةً له كما قيل إذ لا يساعدُه ما سيأتي من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطِقٌ بأن المنهيَّ عنه تمنِّي نصيبِ الغيرِ لا تمنِّي ما زاد على نصيبه مطلقاً.

هذا وقد قيل: لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثلَ حظِّ الأنثيـين قالت النساءُ: نحن أحوجُ أن يكون لنا سهمانِ وللرجال سهمٌ واحد لأنا ضعفاءُ وهم أقوياءُ وأقدرُ على طلب المعاشِ منا فنزلت وهذا هو الأنسبُ بتعليل النهي بقوله عز وجل: { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبْنَ } فإنه صريحٌ في جريان التمني بـين فريقي الرجالِ والنساءِ، ولعل صيغةَ المذكرِ في النهي بالبعض والمعنى لكلَ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معينُ المقدارِ مما أصابه بحسَب استعدادِه، وقد عُبّر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارةِ التبعيةِ المبنيةِ على تشبـيه اقتضاءِ حالِه لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كلَ منهما لنصيبه وتقويةً لاختصاصه به بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاءُ عن التمني المذكور.

وقوله تعالى: { وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ } عطفٌ على النهي، وتوسيطُ التعليلِ بـينهما لتقرير الانتهاءِ مع ما فيه من الترغيب في الامتثالِ بالأمر كأنه قيل: لا تتمنَّوا ما يختصُّ بغيركم من نصيبه المكتَسبِ له واسألوا الله تعالى من خزائن نِعمِه التي لا تنفَذُ، وحُذف المفعولُ الثاني للتعميم، أي واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكُموه، أو لكونه معلوماً من السياق أي واسألوه مثلَه، وقيل: مِنْ زائدةٌ والتقديرُ واسألوه فضلَه وقد جاء في الحديث: "لا يتمنّينّ أحدُكم مالَ أخيه ولكن ليقل: اللهم ارزُقني اللهم أعطِني مثلَه" وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أن يُسألَ، وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرجِ" .

وحملُ النصيبِ على الأجر الأُخرويِّ وإبقاءُ الاكتسابِ على حقيقته ــ بجعل سببِ النزولِ ما رُوي أن أمَّ سلَمةَ رضي الله عنها قالت: «ليت الله كتب علينا الجهادَ كما كتبه على الرجال فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لَهم» على أن المعنى لكلَ من الفريقين نصيبٌ خاصٌّ به من الأجر مترتبٌ على عمله، فللرجال أجرٌ بمقابلة ما يليق بهم من الأعمال كالجهاد ونحوِه فلا تَتَمنَّ النساءُ خصوصيةَ أجرِ الرجالِ ولْيَسألْنَ من خزائن رحمتِه تعالى ما يليق بحالهن من الأجر ــ لا يساعده سياقُ النظمِ الكريمِ المتعلق بالمواريث وفضائلِ الرجالِ { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } ولذلك جعل الناسَ على طبقات ورفَع بعضَهم على بعض درجاتٍ حسب مراتبِ استعداداتِهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبـية.