خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } عُقِّب بـيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ ببـيان حُسنِ حالِ المؤمنين تكميلاً لِمَساءة الأولين ومسرَّةِ الآخَرين، أي الذين آمنوا بآياتنا وعمِلوا بمقتضياتها، وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } وقرىء سيُدخِلُهم بالياء رداً على الاسم الجليلِ، وفي السين تأكيدٌ للوعد { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } حالٌ مقدّرةٌ من الضمير المنصوبِ في سندخلهم وقوله عز وعلا: { لَّهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذَرةِ البدنية والأدناسِ الطبـيعية، في محل النصبِ على أنه حالٌ من جناتٍ أو حالٌ ثانيةٌ من الضمير المنصوبِ أو على أنه صفةٌ لجناتٍ بعد صفةٍ، أو في محل الرفعِ على أنه خبرٌ للموصول بعد خبرٍ { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } أي فيْناناً لا جَوْبَ فيه دائماً لا تنسَخُه شمسٌ اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك وكرمِك يا أرحمَ الراحمين، والظليلُ صفةٌ مشتقةٌ من لفظ الظلِّ للتأكيد كما في ليلٌ ألْيلُ ويومٌ أيومٌ وقرىء يُدخلهم بالياء وهو عطفٌ على سيُدخِلهم لا على أنه غيرُ الإدخالِ الأولِ بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى: { { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود، الآية 58] .

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا } في تصدير الكلامِ بكلمة التحقيقِ وإظهارِ الاسمِ الجليلِ وإيرادِ الأمرِ على صورة الإخبارِ ــ من الفخامة وتأكيدِ وجوبِ الامتثال به والدِلالةِ على الاعتناء بشأنه ــ ما لا مزيدَ عليه، وهو خطابٌ يعُمّ حكمُه المكلّفين قاطبة كما أن الأماناتِ تعمُّ جميعَ الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من حقوق الله تعالى وحقوقِ العبادِ سواءٌ كانت فعليةً أو قوليةً إو اعتقاديةً وإن ورد في شأن عثمانَ بنِ طلحةَ بنِ عبدِ الدارِ سادنِ الكعبةِ المعظمةِ وذلك أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكةَ يوم الفتح أغلق عثمانُ رضي الله عنه بابَ الكعبةِ وصعِدَ السطحَ وأبىٰ أن يدفعَ المِفتاحَ إليه وقال: لو علمت أنه رسولُ الله لم أمنعْه فلوى علي بنُ أبـي طالبٍ يدَه وأخذه منه وفتح ودخل النبـيُّ صلى الله عليه وسلم وصلىٰ ركعتين فلما خرج سأله العباسُ أن يُعطِيَه المفتاحَ ويجمعَ له السِقاية والسِدانة فنزلت فأمر علياً أن يُردَّه إلى عثمانَ ويعتذرَ إليه فقال عثمان لعليّ: أكرهتَ وآذيتَ ثم جئت ترفو فقال: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآناً فقرأ عليه الآية فقال عثمانُ: أشهد أن لا إلٰه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن السِّدانةَ في أولاد عثمانَ أبداً.

وقرىء الأمانةَ على التوحيد والمرادُ الجنسُ لا المعهودُ، وقيل: هو أمرٌ للولاة بأداء الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من المناصب وغيرِها إلى مستحقيها كما أن قوله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } أمرٌ لهم بإيصال الحقوقِ المتعلقةِ بذمم الغيرِ إلى أصحابها، وحيث كان المأمورُ به هٰهنا مختصاً بوقت المرافعةِ قُيِّد به بخلاف المأمورِ به أو لا فإنه لما لم يتعلَّقْ بوقت دون وقت أُطلق إطلاقاً فقوله تعالى: { أَن تَحْكُمُواْ } عطفٌ على أن تؤدوا قد فُصِل بـين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف المعمولِ له عند الكوفيـين، والمقدرُ يدل هو عليه عند البصريـين لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها عندهم أي وإن تحكموا إذا حكمتم الخ، وقولُه تعالى: { بِٱلْعَدْلِ } متعلقٌ بتحكموا أو بمقدر وقع حالاً من فاعله أي ملتبسين بالعدل والإنصاف { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه } { مَا } إما منصوبةٌ موصوفةٌ بـيعظكم به أو مرفوعةٌ موصولةٌ به كأنه قيل: نعم شيئاً يعظكم به أو نعم الشيءُ الذي يعظكم به والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي نِعِمّاً يعظكم به ذلك وهو المأمورُ به من أداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات، وقرىء نَعِمّاً بفتح النون، والجملةُ مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لما قبلها متضمنةٌ لمزيد لُطفٍ بالمخاطبـين وحسنِ استدعاءٍ لهم إلى الامتثال بالأمر، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربـية المهابةِ [في القلوب] { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً } لأقوالكم { بَصِيراً } بأفعالكم فهو وعدٌ ووعيدٌ. وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر آنفاً فإن فيه تأكيداً لكلٍّ من الوعد والوعيد.