{ فَلاَ وَرَبّكَ } أي فوربِّك ولا مزيدةٌ لتأكيد معنى القَسَمِ لا لتأكيد النفيِ في جوابه أعني قولَه { لاَ يُؤْمِنُونَ } لأنها تزادُ في الإثبات أيضاً كما في قوله تعالى:
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة، الآية: 75] ونظائرِه { حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ } أي يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك، وإنما جيء بصيغة التحكيمِ مع أنه عليه الصلاةُ والسلام حاكمٌ بأمر الله سبحانه إيذاناً بأن حقَّهم أن يجعلوه حَكَماً فيما بـينهم ويرْضَوا بحكمه وإن قُطع النظرُ عن كونه حاكماً على الإطلاق { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي فيما اختَلف بـينهم من الأمور واختَلط ومنه الشجرُ لتداخُل أغصانه { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } عطفٌ على مقدر ينساق إليه الكلامُ أي فتقضي بـينهم ثم لا يجدوا { فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً } ضِيقاً { مّمَّا قَضَيْتَ } أي مما قضيت به أو من قضائك وقيل: شكاً من أجله إذ الشاكُّ في ضيق من أمره { وَيُسَلّمُواْ } أي ينقادوا لأمرك ويُذعِنوا له { تَسْلِيماً } تأكيدٌ للفعل بمنزلة تكريرِه أي تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنِهم، يقال: سلّم لأمر الله وأسلم له بمعنىً، وحقيقتُه سلّم نفسَه له وأسلمها إذا جعلها سالمةً له خالصةً، أي ينقادوا لحكمك انقياداً لا شُبهةَ فيه بظاهرهم وباطنِهم، قيل: نزلت في شأن المنافقِ واليهوديِّ [السابقَين]، وقيل: في شأن "الزبـيرِ ورجلٍ من الأنصار حين اختصما إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في شِراجٍ من الحرة كانا يسقيان بها النخلَ فقال عليه الصلاة والسلام: اسقِ يا زبـيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارك فغضِب الأنصاريُّ وقال: لأن كان ابنَ عمتِك! فتغير وجهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسقِ يا زبـيرُ ثم احبِس الماءَ حتى يرجِعَ إلى الجُدُر واستوفِ حقّك ثم أرسلْه إلى جارك" ، كان قد أشار على الزبـير برأي فيه سعةٌ له ولخصمه فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعبَ للزبـير حقَّه في صريح الحُكم. ثم خرجا فمرّا على المقدادِ بن الأسود فقال: لمن القضاءُ؟ فقال الأنصاريُّ: قضى لابن عمتِه ولوى شِدْقَه ففطِن يهوديٌّ كان مع المقداد فقال: قاتل الله هؤلاءِ يشهدون أنه رسولُ الله ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بـينهم وايمُ الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتُلوا أنفسَكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا حتى رضيَ عنا فقال ثابتُ بنُ قيس بنِ شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدقَ لو أمرني محمدٌ أن أقتُلَ نفسي لقتلتُها. وروي أنه قال ذلك ثابتٌ وابنُ مسعودٍ وعمارُ بن ياسرٍ رضي الله عنهم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بـيده إن من أمتي رجالاً الإيمانُ أثبتُ في قلوبهم من الجبال الرواسي" فنزلت في شأن هؤلاء.