خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ
١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
٢
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
٣
فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
-محمد

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وتسمى القتال مدنية وقيل مكية، وآيها تسع أو ثمان وثلاثون

{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي أعرضُوا عن الإسلامِ وسلوكِ طريقةِ، منْ صَدَّ صُدوداً، أو منعُوا النَّاسَ عن ذلكَ مِنْ صدَّهُ صَدَّاً كالمُطعمينَ يومَ بدرٍ وقيلَ: هُم اثنا عشرَ رجُلاً من أهلِ الشركِ كانُوا يصدُّونَ الناسَ عن الإسلامِ ويأمرونَهُم بالكفرِ، وقيلَ أهلُ الكتابِ الذينَ كفرُوا وصدُّوا مَنْ أرادَ منْهم ومن غيرِهم أنْ يدخلَ في الإسلامِ، وقيلَ: هو عامٌّ في كلِّ مَن كفرَ وصدَّ { أَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي أبطلَها وأحبطَها وجعلَها ضائعةً لا أثرَ لَها أصلاً، لكنْ لا بمعنى أنَّه أبطلَها وأحبطَها بعد أنْ لم تكُنْ كذلك بلْ بمَعْنى أنَّه حكَم ببطلانِها وضياعِها، فإنَّ ما كانُوا يعملونَ من أعمالِ البرِّ كصلةِ الأرحامِ وقِرَى الأضيافِ وفكِّ الأُسارَى وغيرِها من المكارمِ ليسَ لها أثرٌ منْ أصلِها لعدمِ مقارنتِها للإيمانِ أو أبطلَ ما عملوا من الكيدِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم والصدِّ عن سبـيلِه بنصرِ رسوله وإظهارِ دينِه على الدِّينِ كُلِّه، وهُو الأوفقُ لما سيأتِي من قولِه تعالى: { { فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } [سورة محمد، الآية 8]. وقولُه تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ } [سورة محمد، الآية 4] الخ. { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } قيلَ: هم ناسٌ من قُريشٍ وقيلَ: من الأنصارِ وقيلَ: هُم مُؤمنو أهلِ الكتابِ وقيلَ: عامٌّ للكُلِّ { وَءامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ } خُصَّ بالذكرِ الإيمانُ بذلكَ مع اندراجِه فيما قبلَهُ تنويهاً بشأنِه وتنبـيهاً على سُموِّ مكانِه منْ بـينِ سائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ وأنه الأصلُ في الكُلِّ، ولذلكَ أُكِّدَ بقولِه تعالى { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ } بطريقِ حصرِ الحقِّيةِ فيهِ، وقيلَ: حقِّيتُه بكونِه ناسخاً غيرَ منسوخٍ، فالحقُّ على هذا مقابلُ الزائلِ وعلى الأولِ مقابلُ الباطلِ، وأيَّاً ما كانَ فقولُه تعالى من ربِّهم حالٌ من ضميرِ الحقِّ. وقُرِىءَ نزَّلَ على البناءِ للفاعلِ، وأَنزلَ على البناءينِ، ونَزَلَ بالتخفيفِ { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } أي سترَهَا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ. { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي حالَهم في الدِّينِ والدُّنيا بالتأيـيدِ والتوفيقِ.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما مرَّ من إضلالِ الأعمالِ وتكفيرِ السيئاتِ وإصلاحِ البالِ، وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى: { بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَـٰطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } أيْ ذلكَ كائنٌ بسببِ أنَّ الأولينَ اتَّبعُوا الشيطانَ كما قالَهُ مجاهدٌ ففعلُوا ما فعلُوا منَ الكفرِ والصدِّ، فبـيانُ سببـيةِ اتباعِه للإضلالِ المذكورِ متضمنٌ لبـيانِ سببـيتِهما له لكونِه أصلاً مُستتبعاً لهما قطعاً وبسببِ أنَّ الآخرينَ اتبعُوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه كائناً من ربِّهم ففعلُوا ما فعلُوا من الإيمانِ به وبكتابِه ومن الأعمالِ الصالحة فبـيانُ سببـيةِ اتِّباعِه لما ذُكرَ من التكفيرِ والإصلاحِ بعدَ الإشعارِ بسببـيةِ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ له متضمنٌ لبـيانِ سببـيتِهما له لكونِه مبدأً ومنشأً لهما حتماً فلا تدافُعَ بـينَ الإشعارِ والتصريحِ في شيءٍ من الموضعينِ ويجوزُ أن يُحملَ الباطلُ على ما يُقابلُ الحقَّ وهو الزائلُ الذاهبُ الذي لا أصلَ له أصلاً فالتَّصريحُ بسببـيةِ اتباعهِ لإضلالِ أعمالِهم وإبطالِها لبـيانِ أنَّ إبطالَها لبطلانِ مبناها وزوالِه، وأما حملُه على ما لا يُنتفعُ به فليسَ كَما ينبغِي لِما أنَّ الكفرَ والصدَّ أفحشُ منه فلا وجَه للتصريحِ بسببـيتِه لما ذُكر من إضلالِ أعمالِهم بطريقِ القصرِ بعدَ الإشعارِ بسببـيتِهما له فتدبر. ويجوزُ أنْ يرادَ بالباطلِ نفسُ الكفرِ والصدِّ وبالحقِّ نفسُ الإيمانِ والأعمالِ الصالحةِ، فيكونُ التنصيصُ على سببـيتِهما لما ذُكَرَ من الإضلالِ ومن التكفيرِ والإصلاحِ تصريحاً بالسببـيةِ المُشعرِ بَها في المَوقعينِ { كَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلكَ الضربِ البديعِ { يَضْرِبُ ٱللَّهُ } أيْ يبـينُ { لِلنَّاسِ أَمْثَـٰلَهُمْ } أي أحوالَ الفريقينِ وأوصافَهما الجاريةَ في الغرابةِ مَجْرى الأمثالِ وهي اتباعُ الأولينِ الباطلَ وخيبتُهم وخُسرانُهم واتباعُ الآخرينَ الحقَّ وفوزُهم وفلاحُهم والفاءُ في قولِه تعالى { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لترتيبِ مَا في حيزِها من الأمرِ على ما قبلها فإنَّ ضلالَ أعمالِ الكفرةِ وخيبتَهم وصلاحَ أحوالِ المؤمنينَ وفلاحَهم، ممَّا يُوجبُ أنْ يرتّب على كلَ من الجانبـينِ ما يليقُ به من الأحكامِ أيْ فإذَا كانَ الأمرُ كما ذُكِرَ فإذَا لقيتُموهم في المُحاربةِ { فَضَرْبَ ٱلرّقَابِ } أصلُه فاضربُوا الرقابَ ضرباً فحُذفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ وأُنيبَ مُنابَهُ مُضافاً إلى المفعولِ، وفيِه اختصارٌ وتأكيدٌ بليغٌ، والتعبـيرُ به عن القتلِ تصويرٌ له بأشنعِ صورةٍ وتهويلٌ لأمرِه وإرشادٌ للغزاةِ إلى أيسرَ ما يكونُ منْهُ. { حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي أكثرتُم قتلَهم وأغلظتمُوه، من الشيءِ الثخينِ وهو الغليظُ أو أثقلتمُوهم بالقتلِ والجراحِ حتَّى أذهبتُم عنهُم النهوضَ. { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } فأْسِرُوهم واحفظُوهم، والوَثاقُ اسمٌ لما يُوثقُ بهِ وكذا الوثاقُ بالكسرِ، وقَدْ قُرِىءَ بذلكَ. { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } أيْ فإمَّا تمنونَ منًّا بعد ذلكَ أو تفْدونَ فداءً. والمَعْنى التخيـيرُ بـين القتلِ والاسترقاقِ والمنِّ والفداءِ وهذا ثابتٌ عند الشافعيِّرحمه الله تعالى وعندنَا منسوخٌ، قالُوا نزلَ ذلكَ يومَ بدرٍ، ثُمَّ نُسخَ والحكمُ إما القتلُ أو الاسترقاقُ. وعن مجاهدٍ ليسَ اليومَ منٌّ ولا فداءٌ إنما هُو الإسلامُ أو ضربُ العنقِ، وقُرِىءَ فداً كعَصَا.

{ حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أوزارُ الحربِ آلاتُها وأثقالُها التي لا تقومُ إلا بَها من السلاحِ والكُراعِ. وأُسندَ وضعُها إليها وهو لأهلِها إسناداً مجازياً، وحتَّى غايةٌ عندَ الشافعيِّ لأحدِ الأمورِ الأربعةِ أو للمجموعِ. والمَعْنى أنَّهم لا يزالونَ على ذلكَ أبداً إلى أنْ لا يكونَ مع المشركينَ حربٌ بأن لا تبقى لهم شوكةٌ، وقيلَ بأنْ ينزلَ عيسى عليه السلامُ وأما عند أبـي حنيفةَرحمه الله تعالى فإنْ حُملَ الحربُ على حربِ بدرٍ فهي غايةٌ للمنِّ والفداءِ والمعنى يُمنُّ عليهم ويُفادون حتى تضعَ حربُ بدرٍ أوزارَها، وإنْ حُملتْ على الجنسِ فهي غايةٌ للضربِ والشدِّ والمَعْنى أنهم يُقتلون ويؤسرون حتَّى يضع جنسُ الحربِ أوزارَها بأنْ لا يبقى للمشركين شوكةٌ. وقيلَ أوزارُها آثامُها أي حتَّى يتركَ المشركونَ شركَهم ومعاصيَهم بأنْ أسلمُوا. { ذٰلِكَ } أي الأمرُ ذلك أو افعلُوا ذلك { وَلَوْ يَشَاء ٱللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } لانتقمَ منُهم ببعضِ أسبابِ الهلكةِ والاستئصالِ { وَلَـٰكِنِ } لم يشأْ ذلك { لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } فأمرَكم بالقتالِ وبلاكُم بالكافرينَ لتجاهدُوهم فتستوجبُوا الثوابَ العظيمَ بموجبِ الوعدِ والكافرين بكم ليعاجلَهم على أيديكُم ببعضِ عذابِهم كيْ يرتدعَ بعضُهم عن الكفرِ. { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي استُشهدوا. وقُرِىءَ قاتلُوا أي جاهدُوا وقَتلُوا وقُتِلوا. { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي فلنْ يُضَيِّعَها. وقُرِىءَ يُضَلَّ أعمالُهم على البناءِ للمفعولِ. ويضِلَّ أعمالَهم من ضلَّ وعنْ قَتَادةَ أنَّها نزلتْ في يومِ أحدٍ.