خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
١
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

(سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية)

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }

{ يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } الوفاءُ القيامُ بموجَبِ العَقْد، وكذا الإيفاء، والعقد هو العهدُ الموَثَّقُ المشبَّه بعقد الحبل ونحوه، والمراد بالعقود ما يعمّ جميعَ ما ألزمه الله تعالى عبادَه وعقَده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية وما يعقِدونه فيما بـينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها، مما يجب الوفاء به، أو يحسنُ دِيناً بأن يُحمل الأمرُ على معنىً يعمّ الوجوبَ والندبَ. أُمرَ بذلك أولاً على وجه الإجمال، ثم شُرِعَ في تفصيلِ الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبُدىء بما يتعلّق بضروريات مَعايشِهم فقيل:

{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } البهيمةُ كلُّ ذات أربع، وإضافتُها إلى الأنعام للبـيان كثوب الخزّ، وإفرادُها لإرادة الجنس، أي أحِلّ لكم أكلُ البهيمة من الأنعام، وهي الأزواجُ الثمانية المعدودة في سورة الأنعام، وأُلحِق بها الظباءُ وبقَرُ الوَحْش ونحوُهما، وقيل: هي المرادة بالبهيمة هٰهنا لتقدّم بـيان حِلِّ الأنعام، والإضافةُ لما بـينهما من المشابهة والمماثلة في الاجترار وعدم الأنياب، وفائدتُها الإشعارُ بعِلة الحكم المشتركة بـين المضافَيْن، كأنه قيل: أُحلت لكم البهيمةُ الشبـيهة بالأنعام التي بَـيَّن إحلالَها فيما سبق، المماثِلةُ لها في مَناطِ الحُكم. وتقديم الجارّ والمجرور على القائم مَقام الفاعل لما مر مراراً من إظهار العناية بالمقدَّم، لما فيه من تعجيل المسرَّة والتشويق إلى المؤخَّر، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقِّبةً إلى وروده، فيتمكّن عندها فضلُ تمكّن.

{ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } استثناء من (بهيمةُ) أي إلا مُحرَّمَ ما يتلى عليكم من قوله تعالى: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } ونحوَه، أو إلا ما يُتلى عليكم آيةُ تحريمه. { غَيْرَ مُحِلّى ٱلصَّيْدِ } أي الاصطيادِ في البَرّ أو أكلِ صيده، وهو نصبٌ على الحالية من ضمير لكم، ومعنى عدمِ إحلالِهم له تقريرُ حرمته عملاً واعتقاداً، وهو شائع في الكتاب والسنة، وقوله تعالى: { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } أي مُحرمون، حال من الضمير في مُحِلِّي، وفائدةُ تقيـيد إحلالِ بهيمةِ الأنعام بما ذُكر من عدم إحلالِ الصيد حالَ الإحرام ـ على تقدير كونِ المراد بها الظباءَ ونظائرَها ـ ظاهرةٌ، لما أن إحلالها غيرُ مُطلق، كأنه قيل: أحل لكم الصيدُ حالَ كونِكم ممتنعين عنه عند إحرامكم.

وأما على التقدير الأول ففائدته إتمامُ النعمة وإظهارُ الامتنان بإحلالها بتذكير احتياجهم إليه، فإن حرمةَ الصيد في حالة الإحرام من مظانِّ حاجتهم إلى إحلال غيرِه حينئذ، كأنه قيل: أحلت لكم الأنعام مطلقاً حالَ كونكم ممتنِعين عن تحصيل ما يُغنيكم عنها في بعض الأوقات محتاجين إلى إحلالها. وفي إسناد عدم الإحلال إليهم بالمعنى المذكور ـ مع حصول المراد بأن يقال: غيرُ محلَّلٍ لكم، أو محرماً عليكم الصيدُ حال إحرامكم ـ مزيدُ تربـيةٍ للامتنان، وتقرير للحاجة ببـيان علتها القريبة، فإن تحريم الصيد عليهم إنما يوجب حاجتهم إلى إحلال ما يغنيهم عنه باعتبار تحريمهم له عملاً واعتقاداً، مع ما في ذلك من وصفهم بما هو اللائق بهم، { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئتُه المبْنيةُ على الحِكَم البالغة، فيدخل فيها ما ذُكر من التحليل والتحريم دخولاً أولياً، ومعنى الإيفاء بهما الجرَيانُ على موجبهما عقداً وعملاً، والاجتنابُ عن تحليل المحرمات وتحريم بعضِ المحلَّلاتِ كالبَحيرة ونظائرِها التي سيأتي بـيانها.