خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } هو اسمُ جمعٍ على رأي الخليل وسيبويه وجمهور البصريـين، كطرفاء وقصباء أصله شيآء بهمزتين بـينهما ألف، فقُلبت الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء، ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث الممدودة، وقيل: هو جمع شيْء على أنه مخفف من شيِّـيء كهَيْنٍ مخففٌ من هيِّن، والأصل أشْيِئاء كأهوناء بزنة أفعِلاء، فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتي للتأنيث، إذ الألف كالهمزة فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياء لانكسار ما قبلها فصارت أشياء وزنها أفلاء، ونعت الصرف لألف التأنيث، وقيل: إنما حذفت من أشيِـياءَ الياءُ المنقلبةُ من الهمزة التي هي لام الكلمة وفُتحت الياء المكسورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء، وقوله تعالى: { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } صفةٌ لأشياء داعيةٌ إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وحيث كانت المَساءةُ في هذه الشرطية معلقةً بإبدائها لا بالسؤال عنها عُقّبت بشرطية أخرى ناطقةٍ باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجِبِ للمحذور قطعاً، فقيل: { وإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ ينزَلُ القُرْآن تُبْدَ لَكُم } أي تلك الأشياء الموجِبة للمَساءة بالوحي كما ينبىء عنه تقيـيدُ السؤال بحينِ التنزيل، والمراد بها ما يشُق عليهم ويغمُهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرارِ الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحوُ ذلك مما لا خير فيه، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستَتْبِعٌ لإبدائها كذلك السؤالُ عن تلك التكاليف مستتبعٌ لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب، واجترائِهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزِهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل من غير بحث فيه ولا تعرّضٍ لكيفيته وكمِّيته، أي لا تُكثروا مُساءلةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يَعْنيكم من نحو تكاليفَ شاقةٍ عليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أُوحيَ إليه لم تطيقوها، ونحوِ بعضِ أمورٍ مستورة تكرهون بُروزَها، وذلك مِثلُ ما رُوي "عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحمِد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله تعالى كتَب عليكم الحجَّ فقام رجل من بني أسدٍ يقال لهُ: عُكاشةُ بنِ مِحْصَنٍ، وقيل: سُراقة بنُ مالك، فقال: أفي كل عامٍ يا رسول الله؟ فأعرضَ عنه حتى أعاد مسألتَه ثلاثَ مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك وما يُؤْمِنُك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبتْ ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاترُكوني ما تركتكم. فإنما هلَك من كان قبلَكم بكثرة سؤالِهم واختلافِهم على أنبـيائهم، فإذا أمرتُكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه" . ومِثلُ ما رُوي عن أنسٍ وأبـي هريرة رضي الله عنهما، " أنه سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ حتى أحفَوْه في المسألة، فقام عليه الصلاة والسلام مغْضَباً خطيباً فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال: سلوني فوالله ما تسألوني عن شيءٍ ما دُمْت في مقامي هذا إلا بـيّنتُه لكمفأشفق أصحابُ النبـي عليه الصلاة والسلام أن يكون بـين يَدَيْ أمرٍ قد حضَر، قال أنسٌ رضي الله عنه: فجعلتُ ألتفتُ يميناً وشِمالاً فلا أجدُ رجلاً إلا وهو لافٌّ رأسَه في ثوبه يبكي، فقام رجل من قريشٍ من بني سَهْمٍ يقال له: عبدُ اللَّه بنُ حُذافة، وكان إذا لاحىٰ الرجال يُدْعىٰ إلى غير أبـيه وقال: يا نبـي الله، مَنْ أبـي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أبوك حذافةُ بنُ قيسٍ الزهري، وقام آخرُ وقال: أين أبـي؟ قال عليه الصلاة والسلام: في النار، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال: رضِينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً نبـياً، نعوذ بالله تعالى من الفتن، إنا حديثو عهدٍ بجاهلية وشِرْكٍ فاعفُ عنا يا رسول الله، فسكن غضبُه عليه الصلاة والسلام" .

{ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } استئناف مَسوقٌ لبـيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتِهم عن المَساءة، بل لأنها في نفسها معصيةٌ مستتبِعةٌ للمؤاخذة وقد عفا عنها، وفيه مِنْ حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى، وضميرُ (عنها) للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا، أي عفا الله تعالى عن مسائلِكم السالفةِ حيث لم يفرِضْ عليكم الحج في كل عام جزاءً بمسألتكم، وتجاوَزَ عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها. وأما جعلُه صفةً أخرى (لأشياء) على أن الضمير (لها) بمعنى لا تسألوا عن أشياءَ عفا الله عنها ولم يكلّفْكم إياها فمما لا سبـيل إليه أصلاً، لاقتضائِه أن يكون الحجُّ قد فُرض أولاً في كل عامٍ ثم نُسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطَبـين ضرورةَ أن حقَّ الوصف أن يكونَ معلومَ الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعلِه وصفاً له، وكلاهما ضروريُّ الانتفاء قطعاً، على أنه يستدعي اختصاصَ النهْي بمسألة الحجِّ ونحوِها إن سلِمَ وقوعُها، مع أن النظم الكريمَ صريحٌ في أنه مَسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوؤُهم إبداؤُها، سواءٌ كانت من قبـيل الأحكام والتكاليفِ الموجبة لِمَساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبةً وتشديداً كمسألة الحج لولا عفوُه تعالى عنها، أو من قبـيل الأمور الواقعةِ قبل السؤال الموجبةِ للمساءة بالإخبار بها كمسألة مَنْ قال: أين أبـي؟

إن قلتَ تلك الأشياءُ غير مُوجبةٍ للمَساءة البتةَ، بل هي محتمِلةٌ لإيجاب المَسرَّة أيضاً، لأن إيجابَها للأولى إن كانت من حيث وجودُها فهي من حيث عدمُها موجبةٌ للأخرى قطعاً، وليست إحدى الحيثيتَيْن محقّقةً عند السائل وإنما غَرَضُه من السؤال ظهورُها كيف كانت، بل ظهورُها بحيثية إيجابها للمَساءة؟ قلتُ: لتحقيق المنهيِّ عنه كما ستعرِفه مع ما فيه من تأكيد النهْي وتشديدِه، لأن تلك الحيثيةَ هي الموجبةُ للانتهاء والانزجار، لا حيثيةُ إيجابِها للمسرة ولا حيثيةُ تردّدِها بـين الإيجابـين. إن قيل: الشرطية الثانية ناطقةٌ بأن السؤالَ عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمٌ لإبدائها البتةَ كما مر فلمَ تخلَّفَ الإبداءُ عن السؤال في مسألةِ الحج حيث لم يُفرَضْ في كل عام؟ قلنا: لوقوع السؤال قبل ورودِ النهي، وما ذُكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقعُ بعد وروده، إذ هو الموجبُ للتغليظ والتشديد ولا تخلُّفَ فيه، إن قيل: ما ذكرتَه إنما يتمشى فيما إذا السؤالُ عن الأمور المترددةِ بـين الوقوع وعدمِه كما ذُكرَ من التكاليف الشاقةِ، وأما إذا كان عن الأمور الواقعةِ قبله فلا يكادُ يتسنّى، لأن ما يتعلق به الإبداءُ هو الذي وقع في نفس الأمرِ ولا مرد له، سواء كان السؤالُ قبل النهي أو بعده، وقد يكون الواقع ما يوجب المسرةَ كما في مسألة عبدِ اللَّه بنِ حذافةَ، فيكون هو الذي يتعلق به الإبداءُ لا غيرُ، فيتعين التخلُّفُ حتماً، قلنا: لا احتمالَ للتخلف فضلاً عن التعيُّن، فإن المنهيَّ عنه في الحقيقة إنما هو السؤالُ عن الأشياء الموجبةِ للمَساءة الواقعةِ في نفس الأمر قبل السؤال، كسؤال من قال: أين أبـي؟ لا عما يعُمُّها وغيرَها مما ليس بواقع، لكنه محتمِلٌ للوقوع عند المكلفين حتى يلزمَ التخلّفُ في صورةِ عدم الوقوع.

وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي يوجبُ إبداؤها المساءةَ البتة، إما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداً كما في صورة كونِها من قبـيل التكاليف الشاقة، وإما بأن تكون واقعةً في نفس الأمر قبل السؤال فتُبدى عنده بطريق الإخبار بها، فالتخلفُ ممتنِعٌ في الصورتين معاً، ومنشأ توهّمِه عدمُ الفرق بـين المنهي عنه وبـين غيرِه بناءً على عدم امتياز ما هو موجودٌ أو بعَرَضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم، وفائدةُ هذا الإبهام الانتهاءُ عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حِذارَ إبداء المكروه { وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقرِّر لعفوه تعالى أي مبالغٌ في مغفرة الذنوب والإغضاءِ عن المعاصي، ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخِذْكم بعقوبة ما فَرَط منكم.