خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١١٠
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } شروعٌ في بـيان ما جرى بـينه تعالى وبـين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيلِ إثرَ بـيانِ ما جرى بـينه تعالى وبـين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأُنموذج لتفاصيلِ أحوال الباقين، وتخصيصُ شأن عيسى عليه السلام بالبـيان تفصيلاً من بـين شؤون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هَوْل ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبـين بالرسل لما أن شأنه عليه السلامُ متعلِّقٌ بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نُعِيتْ عليهم في السورة الكريمة جناياتُهم، فتفصيلُه أعظمُ عليهم وأجلبُ لحسرتهم وندامتِهم وأفتُّ في أعضادهم وأدخَلُ في صرفهم عن غيّهم وعنادهم، و(إذ) بدلٌ من (يومَ يجمع الله) الخ، وصيغة الماضي لما ذكر من الدلالة على تحقق الوقوع، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل [وتربـية المهابة]. وكلمة على في قوله تعالى: { ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وٰلِدَتِكَ } متعلقة بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً، أي اذكر إنعامي عليكما، أو بمحذوفٍ هو حالٌ منها إن جُعلت اسماً، أي اذكر نعمتي كائنة عليكما، وليس المرادُ بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفَه عليه السلام شكرَها والقيامَ بمواجبها ولاتَ حينَ تكليف، مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوله أيَّ خروج، بل إظهارَ أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بـينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذاً بذكرها على رؤوس الأشهاد، لتكون حكايةُ ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبـيخاً ومزجرةً للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً.

{ إِذْ أَيَّدتُّكَ } ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأيـيدي لك أو حال منها، أي اذكرها كائنة وقت تأيـيدي لك، وقرىء (آيدتُك) والمعنى واحد أي قويتك { بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } بجبريلَ عليه السلام لتثبـيت الحجة أو بالكلام الذي يَحيـىٰ به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام، أو يَحيـىٰ به الموتى أو النفوسُ حياةً أبدية، وقيل: الأرواحُ مختلفةُ الحقائق، فمنها طاهرةٌ نورانية، ومنها خبـيثةٌ ظُلمانية، ومنها مشرقةٌ، ومنها كَدِرةٌ، ومنها حُرة، ومنها نذْلة، وكان روحُه عليه الصلاة والسلام طاهرةً مشرقةً نورانية عُلوية، وأياً ما كان فهو نعمة عليهما { تُكَلّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } استئناف مبـين لتأيـيده عليه السلام أو حال من الكاف، وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبـيان أن كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديعٍ صادراً عن كمال العقل مقارِناً لرزانة الرأي والتدبـير، وبه استُدل على أنه عليه السلام سينزِل من السماء لِما أنه عليه السلامُ رفع قبل التكهُّل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنةً، ومكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله تعالى إليه { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَـٰبَ } عطف على قوله تعالى: { إِذْ أَيَّدتُّكَ } منصوب بما نصبه، أي اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك الكتاب { وَٱلْحِكْــمَةِ } أي جنسهما { وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } خُصا بالذكر مما تناوله الكتابُ والحكمةُ إظهاراً لشرفهما، وقيل: الخطُّ والحكمةُ الكلامُ المُحكَم الصواب.

{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } أي تُصوَّر منه هيئةً مماثلة لهيئة الطير { بِإِذْنِى } بتسهيلي وتيسيري، لا على أن يكون الخلقُ صادراً عنه عليه السلام حقيقة، بل على أن يظهر ذلك على يده عليه السلام عند مباشرةِ الأسباب مع كون الخلق حقيقةً لله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى: { فَتَنفُخُ فِيهَا } أي في الهيئة المصوَّرة { فَتَكُونُ } أي تلك الهيئة { طَيْراً بِإِذْنِى } فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارةً عن تكوينه تعالى للطير بل عن محضِ تيسيره مع صدور الفعل حقيقةً عما أُسند إليه لكان هذا تكوّناً من جهة الهيئة، وتكريرُ قوله: { بِإِذْنِى } في الطير مع كونه شيئاً واحداً، للتنبـيه على أن كلاًّ من التصوير والنفخ أمرٌ معظّم بديعٌ لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى { وَتُبْرِىء ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي } عطف على (تخلُق).

{ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِى } عطف على (إذ تخلق) أعيد فيه إذْ، لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميماً، معجزةً باهرةً ونعمةً جليلة حقيقةً بتذكير وقتها صريحاً، قيل: أخرج سامَ بنَ نوح ورجلين وامرأةً وجاريةً، وتكرير قوله: { بِإِذْنِى } في المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببـيان أن تلك الخوارقَ ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزةً له ونعمةً خصَّها به، وأما ذكرُه في سورة آلِ عِمرانَ مرتين لما أن ذلك موضعُ الإخبار، وهذا موضعُ تعداد النعم { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرٰءيلَ عَنكَ } عطف على (إذ تخرج) أي منعتُ اليهودَ الذين أرادوا بك السوء عن التعرُّض لك { إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ } بالمعجزات الواضحة مما ذُكر وما لم يُذكر، كالإخبار بما يأكلون وما يدّخِرون في بـيوتهم ونحوِ ذلك، وهو ظرفٌ لكففت، لكن لا باعتبار المجيء بها فقط بل باعتبار ما يعقبُه من قوله تعالى: { فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتيالَه عليه السلام المُحوِجَ إلى الكف، أي كففتُهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئِك إياهم بالبـينات، وإنما وُضع موضعَ ضميرِهم الموصولُ لذمهم بما في حيِّز الصلة، فكلمة (من) بـيانية، وهذا إشارة إلى ما جاء به، والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأَوْه من نفس المسمّى من حيث هو، أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبـينات، وقرىء (إن هذا إلا ساحر مبـين) فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام.