خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١٤
قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ
١١٥
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } لما رأى عليه السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك، وأنهم لا يُقلعون عنه، أزمعَ على استدعائها واستنزالها، وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ بكمالها.

رُوي " أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل ولبس المِسْح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال: { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ }" ، ناداه سبحانه وتعالى مرتين، مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات، ومرةً بوصف الربوبـية المُنْبئةِ عن التربـية، وإظهاراً لغاية التضرّع، ومبالغةً في الاستدعاء { أُنزِلَ عَلَيْنَا } تقديمُ الظرف على قوله: { مَائِدَةً } لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله: { مّنَ ٱلسَّمَاء } متعلق بأنزل أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة، أي كائنةً من السماء نازلةً منها.

وقوله: { تَكُونُ لَنَا عِيداً } في محل النصب على أنه صفةٌ لمائدة، واسم تكون ضمير المائدة، وخبرُها إما عيداً و(لنا) حال منه، أو من ضمير (تكون) عند من يجوِّز إعمالَها في الحال، وإما (لنا)، وعيداً حال من الضمير في لنا، لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً، أو من ضمير (تكون) عند من يرى ذلك، أي يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه، وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها، وقيل: العيدُ السرورُ العائد، ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً، وقرىء (تكن) بالجزم على جواب الأمر كما في قوله: { { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [مريم، الآية 46] خلا أن قراءةَ الجزم هناك متواترة وهٰهنا من الشواذ { لأَِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا } بدل من (لنا) بإعادة العامل، أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا. رُوي أنها نزلت يوم الأحد، ولذلك اتخذه النصارى عيداً، وقيل: للرؤساء منا والأتباع، وقيل: يأكل منها أولُنا وآخرُنا، وقرىء (لأُولانا وأُخْرانا) بمعنى الأمة والطائفة { وَءايَةٌ } عطف على عيداً { مِنكَ } متعلق بمحذوف وهو صفة لآية، أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي { وَٱرْزُقْنَا } أي المائدة أو الشكر عليها { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } تذيـيلٌ جارٍ مَجْرى التعليل، أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض، وفي إقباله عليه السلام على الدعاء ـ بتكرير النداء المُنْبىءِ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادتِه ما لم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الداعية إلى الإجابة والقَبول ـ دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين، وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة، كما في قول إبراهيم عليه السلام.

{ قَالَ ٱللَّهُ } استئناف كما سبق { إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ } ورودُ الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المُنْبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمالِ اللطف والإحسان، كما في قوله تعالى: { { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ } [الأنعام، الآية 64] الخ، بعد قوله تعالى: { { لَّئِنْ أَنجَـٰنَا مِنْ هَـٰذِهِ } [الأنعام، الآية 63] الخ، مع ما فيه من مراعاة ما وقعَ في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعلِ خبرِها اسماً، تحقيقٌ للوعد وإيذان بأنه تعالى منجزٌ له لا محالة من غير صارفٍ يَثنيه ولا مانعٍ يَلويه، وإشعارٌ بالاستمرار أي إني منزلُ المائدة عليكم مراتٍ كثيرة، وقرىء بالتخفيف، وقيل: الإنزالُ والتنزيلُ بمعنى واحد { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ } أي بعد تنزيلها { مّنكُمْ } متعلق بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعل (يكفرْ) { فَإِنّى أُعَذّبُهُ } بسبب كفره بعد معاينة هذه الآيةِ الباهرة { عَذَاباً } اسم مصدرٍ بمعنى التعذيب، وقيل: مصدر بحذف الزوائد، وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين، وجَوَّز أن يكون الفعل مفعولاً به على الاتساع، وقوله تعالى: { لاَّ أُعَذّبُهُ } في محل النصب على أنه صفة لعذاباً، والضمير له أي (أعذبه) تعذيباً لا أعذب مثل ذلك التعذيب { أَحَداً مّن ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي من عالَمِي زمانِهم أو من العالمين جميعاً، قيل: لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضُهم، فاستعفَوْا وقالوا: لا نريدها فلم تنزِلْ، وبه قال مجاهدٌ والحسن رحمهما الله: والصحيحُ الذي عليه جماهيرُ الأمة ومشاهيرُ الأئمة أنها قد نزلت.

روي (أنه عليه السلام لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب، إذا بسفْرةٍ حمراءَ نزلت بـين غمامتين، غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بـين أيديهم، فبكىٰ عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمةً للعالمين، ولا تجعلها مُثْلةً وعقوبة، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خيرِ الرازقين، فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا شَوْك تسيل دسَماً، وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ، وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد منها زيتونٌ، وعلى الثاني عَسَلٌ، وعلى الثالث سَمْنٌ، وعلى الرابع جُبْنٌ، وعلى الخامس قدَيدٌ، فقال شمعونُ رأسُ الحواريـين: يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أو من طعام الآخرة؟ قال: ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله، فقالوا: يا روحَ الله لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى؟ فقال: يا سمكةُ احْيَـيْ بإذنِ الله، فاضطربت، ثم قال لها: عُودي كما كنت، فعادَتْ مشويةً ثم طارت المائدة، ثم عَصَوا فمُسخوا قردةً وخنازيرَ).

وقيل: كانت تأتيهم أربعين يوماً غِباً، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء، والصغار والكبار، يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظللها. ولم يأكل منها فقير إلا غَنِيَ مدةَ عُمُرِه، ولا مريضٌ إلا برِىءَ ولم يمرَضْ أبداً، ثم أوحىٰ الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: أنِ اجعلْ مائدتي في الفقراء والمرضَى دون الأغنياء والأصحاء، فاضطرب الناسُ لذلك فمُسِخَ منهم من مُسِخَ، فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْن في الطرقات والكُناسات، ويأكلون العَذِرة في الحُشوش، فلما رأى الناس ذلك فزِعوا إلى عيسى عليه السلام وبكَوُا الممسوخين، فلما أبصرت الخنازيرُ عيسى عليه السلام بكتْ وجعلت تطيف به، وجعل يدعوهم بأسمائهم واحداً بعد واحد، فيبكُون ويُشيرون برؤوسهم، ولا يقدِرون على الكلام، فعاشوا ثلاثةَ أيام ثم هلَكوا.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عيسى عليه السلام قال لهم: صوموا ثلاثين يوماً ثم سَلوا الله ما شئتم يُعطِكم، فصاموا فلما فرَغوا قالوا: إنا لو عمِلنا لأحدٍ فقضَيْنا عملَه لأطعَمَنا، وسألوا الله تعالى المائدة، فأقبلت الملائكةُ بمائدة يحمِلونها عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحواتٍ، حتى وضعتْها بـين أيديهم، فأكل منها آخِرُ الناس كما أكل منها أولُهم. قال كعب: نزلت منكوسةً تطير بها الملائكةُ بـين السماء والأرض، عليها كلُّ الطعام إلا اللحمَ. وقال قتادة: كان عليها ثمرٌ من ثمار الجنة. وقال عطيةُ العوفي: نزلت من السماء سمكةٌ فيها طعمُ كل شيء. وقال الكلبـي ومقاتل: نزلت سمكةٌ وخمسةُ أرغفةٍ فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألفٌ ونيِّفٌ، فلما رجعوا إلى قُراهم ونشروا الحديث ضحِك من لم يشهَدْ وقالوا: ويحكم إنما سحَر أعينَكم، فمن أراد الله به الخيرَ ثبّته على بصيرة، ومن أراد فتنته رجَع إلى كفره، فمُسخوا خنازيرَ، فمكثوا كذلك ثلاثةَ أيام ثم هلكوا لم يتوالدوا، ولم يأكُلوا ولم يشربوا، وكذلك كلُّ ممسوخ.