خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٥٠
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥١
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } إنكار وتعجيبٌ من حالهم وتوبـيخ لهم، والفاء للعطف على مقدّرٍ يقتضيه المقام، أي أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية؟ وتقديمُ المفعول للتخصيص المفيدِ لتأكيد الإنكار والتعجيب، لأن التولَّيَ عن حكمه عليه الصلاة والسلام وطلبَ حكم آخرَ منكرٌ عجيب، وطلبُ حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية إما المِلةُ الجاهلية التي هي متابعةُ الهوى الموجبةُ للميل والمداهنةُ في الأحكام فيكون تعيـيراً لليهود بأنهم مع كونهم أهلَ كتاب وعلمٍ يبغون حكمَ الجاهلية التي هي هوى وجهلٌ لا يصدُر عن كتاب ولا يرجِعُ إلى وحي، وإما أهلُ الجاهلية، وحكمُهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بـين القتلى، حيث " رُوي أن بني النضيرِ لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومةِ قتلِ وقعت بـينهم وبـين بني قريظة طلبوا إليه عليه الصلاة والسلام أن يحكم بـينهم بما كان عليه أهلُ الجاهلية من التفاضل، فقال عليه الصلاة والسلام: القتلى سواءٌ" فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت)، وقرىء برفع (الحكم) على أنه مبتدأ ويبغون خبرُه والراجعُ محذوفٌ حذْفَه في قوله تعالى: { أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [الفرقان، الآية 41] وقد استُضعف ذلك في غير الشعر، وقرىء بتاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبـيخ وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ، وقرىء بفتح الحاء والكاف أي أفحاكماً كحكام الجاهلية يبغون { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً } إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنُ من حكمه تعالى أو مساوٍ له، وإن كان ظاهرُ السبك غيرَ متعرِّضٍ لنفي المساواة وإنكارِها، وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } [النساء، الآية 125] { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي عندهم، واللام كما في (هَيْتَ لك)، أي هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم، فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسنُ الأحكام وأعدلُها. { يأيها الذين آمنوا } خطاب يعُمّ حكمُه كافةَ المؤمنين من المخلصين وغيرهم، وإن كان سببُ ورودِه بعضاً منهم كما سيأتي، ووصفُهم بعنوان الإيمان لحملَهم من أول الأمر على الانزجار عما نُهوا عنه بقوله عز وجل: { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء } فإن تذكيرَ اتصافِهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتِهما، أي لا يتخذْ أحدٌ منكم أحداً منهم ولياً، بمعنى لا تُصافوُهم ولا تعاشِروهم مُصافاةَ الأحباب ومعاشرَتَهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياءَ لكم حقيقة، فإنه أمرٌ ممتنِعٌ في نفسه لا يتعلق به النهي { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي بعضُ كلِّ فريق من ذَيْنِك الفريقَيْن أولياءُ بعضٍ آخَرَ من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر، وإنما أوثر الإجمالُ في البـيان تعويلاً على ظهور المُراد لوضوح انتفاءِ الموالاة بـين فريقَي اليهود والنصارى رأساً، والجملة مستأنفةٌ مَسوقة لتعليل النهي وتأكيدِ إيجاب الاجتناب عن المنْهيِّ عنه أو (بعضُهم أولياء بعض) متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون ومن ضرورته إجماعُ الكل على مُضادَّتكم ومضارَّتِكم بحيث يسومونكم السوءَ ويبغونكم الغوائل، فكيف يُتصورُ بـينكم وبـينهم موالاة؟ وقوله تعالى: { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } حكمٌ مستنتَجٌ منه، فإن انحصارَ الموالاة فيما بـينهم يستدعي كونَ من يواليهم منهم، ضرورةَ أن الاتحادَ في الدين الذي عليه يدور أمرُ الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين، تعيّنَ أن يكون ذلك بكَوْنِ من يواليهم منهم، وفيه زجرٌ شديد للمؤمنين عن إظهار صورةِ الموالاة لهم وإن لم تكن موالاةً في الحقيقة وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } تعليلٌ لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنَهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وَضعَ المُظْهَرَ موضع ضميرِهم تنبـيهاً على أن تولِّيهم ظلمٌ، لما أنه تعريضٌ لأنفسهم للعذاب الخالد ووضعٌ للشيء في غير موضعه.