خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ
٦٥
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
٦٦
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ } أي اليهود والنصارى، على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل، وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع، فإنّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به، وإقامتَهم له لا محالة، فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلُه أقبحُ من كل قبـيح وأشنعُ من كل شنيع، فمفعول قوله تعالى: { ءامَنُواْ } محذوف ثقةً بظهوره مما سبَقَ من قوله تعالى: { { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـٰسِقُونَ } [المائدة، الآية 59] وما لَحِقَ من قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ } الخ، أي لو أنهم مع صدور ما صدَرَ عنهم من فنون الجنايات قولاً وفعلاً آمنوا بما نُفِيَ عنهم الإيمانُ به فيندرج فيه فرضُ إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إرادةُ إيمانهم به عليه السلام خاصة فيأباها المقام، لأن ما ذُكر فيما سبَقَ وما لَحِق من كفرهم به عليه السلام إنما ذُكر مشفوعاً بكفرهم بكتابِهم أيضاً قصداً إلى الإلزام والتبكيت ببـيان أن الكفرَ به عليه الصلاة والسلام مستلزمٌ للكفر بكتابهم، فحملُ الإيمانِ هٰهنا على الإيمان به عليه السلام خاصة مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظم الكريم. { وَٱتَّقَوْاْ } ما عدَدْنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفةُ كتابهم { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } التي اقترفوها وإن كانت في غاية العِظَم ونهايةِ الكثرة ولم نؤاخِذْهم بها { وَلأُدْخَلْنَـٰهُمْ } مع ذلك { جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } وتكريرُ الام لتأكيدِ الوعد، وفيه تنبـيه على كمال عِظَم ذنوبهم وكثرةِ معاصيهم وأن الإسلام يجبُّ ما قبله من السيئات وإن جلَّتْ وجاوزت كلَّ حدَ معهود.

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ } بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهدُ نبوةِ النبـي صلى الله عليه وسلم ومبشراتُ بِعثتِه، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك لا بمراعاة جميع ما فيهما من الأحكام لانتساخِ بعضِها بنزول القرآن فليست مراعاةُ الكلِّ من إقامتهما في شيء { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ } من القرآن المجيد المصدِّق لكتبهم، وإيرادُه بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم، وللتصريح ببطلان ما كانوا يدّعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديمُ (إليهم) لما مر من قبل، وفي إضافة الرب إلى ضمير (هم) مزيدُ لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة، وقيل: المراد بما أنزل إليهم كتبُ أنبـياءِ بني إسرائيل مثلُ كتاب (شعياء) وكتاب (حبقوق) وكتاب (دانيال) فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى الله عليه وسلم { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } أي لوسَّع عليهم أرزاقَهم بأن يُفيض عليهم بركاتِ السماء والأرض، أو بأن يكثر ثمراتِ الأشجار وغلالَ الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدّل منها من رؤوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض، وقيل: المراد المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيـينُ الجهتين، كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، ومفعول (أكلوا) محذوف بقصد التعميم، أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قوله: فلان يعطي ويمنع، و(مِنْ) في الموضعين لابتداء الغاية وفي هاتين الشرطيتين ـ من حثِّهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامةِ بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرِهم عن الإخلال به بما ذُكر ببـيان إفضائِه إلى الحِرْمان عنها وتنبـيههم على أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصورٍ في فيض الفياض ـ ما لا يخفى.

{ مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل الكتاب، كأنه قيل: هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان؟ الخ، فقيل: (منهم أمة مقتصدة) إما على أن(منهم) مبتدأ باعتبار مضمونه أي بعضهم أمة، وإما بتقدير الموصوف أي بعضٌ كائنٌ منهم كما مر في قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ } الآية، أي طائفة معتدلة وهم المؤمنون منهم كعبد اللَّه بنِ سلام وأضرابِه، وثمانيةٌ وأربعون من النصارى، وقيل: طائفة حالُهم أَممٌ في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ } مبتدأ لتخصُّصِه بالصفة خبرُه { سَاء مَا يَعْمَلُونَ } أي مقولٌ في حقهم هذا القولُ، أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملَهم من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض عنه، والإفراطِ في العداوة، وهم الأجلافُ المتعصِّبون ككعبِ بن الأشرف وأشباهه والروم.