خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١٥٠
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } أي أحضِروهم وهو اسمُ فعلٍ لا يتصرَّف على لغة أهلِ الحجاز، وفعلٌ يؤنث ويُجمع على لغة بني تميم على رأي الجمهور وقد خالفهم البعض في فعليته وليس بشيء، وأصلُه عند البصريـين هالُمّ من لَمّ إذا قصَد حُذفت الألفُ لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيـين هلْ أُمَّ فحذفت الهمزةُ بإلقاء حركتِها على اللام وهو بعيد لأن هل تدخل على الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازماً كما في قوله تعالى: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } { ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا } وهم قدوتُهم الذين ينصُرون قولَهم وإنما أُمروا باستحضارهم ليُلزِمَهم الحجةَ ويظهر بانقطاعهم ضلالتَهم وأنه لا متمسَّكَ لهم كمن يقلدهم ولذلك قُيّد الشهداءُ بالإضافة ووُصفوا بما يدل على أنهم شهداءُ معروفون بالشهادة لهم وبنُصرة مذهبهم { فَإِن شَهِدُواْ } بعد ما حضَروا بأن الله حرم هذا { فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي فلا تصدقْهم فإنه كذِبٌ بحتٌ وافتراءٌ صِرْفٌ وبـيِّنْ لهم فسادَه فإن تسليمَه منهم موافقةٌ لهم في الشهادة الباطلة { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا } من وضع المظهرِ مقامَ المضمرِ للدِلالة على أن من كذَّب بآياتِ الله تعالى وعدَل به غيرَه فهو متبعٌ لا غيرُ، وأن من اتبع الحجةَ لا يكون إلا مصدقاً بها { وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } كعبدة الأوثان، عطفٌ على الموصول الأولِ بطريق عطفِ الصفةِ على الصفة مع اتحاد الموصوفِ كما في قوله: [المتقارب]

إلى الماجد القَرْمِ وابنِ الهمامِوليثِ الكتائبِ في المزدَحَمْ

فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس { وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يجعلون له عديلاً، عطفٌ على لا يؤمنون، والمعنى لا تتبع أهواءَ الذين يجمعون بـين تكذيبِ آياتِ الله وبـين الكفرِ بالآخرة وبـين الإشراكِ به سبحانه. لكن لا على أن يكون مدارُ النهي الجمعُ المذكورُ بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها.

{ قُلْ تَعَالَوْاْ } لما ظهر بُطلانُ ما ادعَوْا من أن إشراكَهم وإشراكَ آبائِهم وتحريمَ ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئتِه بظهور عجْزِهم عن إخراج شيءٍ يُتمسّك به في ذلك وإحضارِ شهداءَ يشهدون بما ادعَوْا في أمر التحريم بعد ما كُلّفوه مرةً بعد أخرى عجزاً بـيناً أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن يبـينَ لهم من المحرمات ما يقتضي الحالُ بـيانَه على الأسلوب الحكيم إيذاناً بأن حقَّهم الاجتنابُ عن هذه المحرماتِ، وأما الأطعمةُ المحرمةُ فقد بُـينت بقوله تعالى: { { قُل لا أَجِدُ } [الأنعام، الآية 145] الآية، وتعالَ أمرٌ من التعالي والأصلُ فيه أن يقوله من مكان عالٍ لمن هو في أسفلَ منه ثم اتُّسع فيه بالتعميم، كما أن الغنيمة في الأصل إصابةُ الغَنَم من العدو ثم استعملت في إصابة كلِّ ما يُصاب منهم اتساعاً ثم في الفوز بكل مطلبٍ من غير مشقة { ٱتْلُ } جوابُ الأمر وقوله تعالى: { مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } منصوبٌ به على أن (ما) موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ، أي اقرأْ الذي حرمه ربُّكم أي الآياتِ المشتمِلةَ عليه، أو مصدريةٌ أي الآياتِ المشتملة على تحريمه أو بحرم على أنها استفهاميةٌ، والجملةُ مفعولٌ لأتلُ لأن التلاوةَ من باب القول، كأنه قيل: أقُلْ أيُّ شيءٍ حرم ربكم { عَلَيْكُمْ } متعلقٌ بحرّم على كل حال، وقيل: بأتلُ والأول أنسبُ بمقام الاعتناءِ بإيجاب الانتهاءِ عن المحرمات المذكورةِ وهو السرُّ في العرض لعنوان الربوبـيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم، فإن تذكيرَ كونِه تعالى رباً لهم ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أقوى الدواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشدَّ انتهاءٍ وأنْ في قوله تعالى: { أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ } مفسرةٌ لفعل التلاوةِ المعلَّقِ بما حرم، و(لا) ناهيةٌ كما ينبىء عنه عطفُ ما بعده من الأوامر والنواهي عليه، وليس من ضرورة كونِ المعطوفِ عليه تفسيراً لتلاوة المحرمات بحسب منطوقه كونُ المعطوفاتِ أيضاً كذلك حتى يمتنع انتظامُ الأوامر في سلك العطفِ عليه بل يكفي في ذلك كونُها تفسيراً لها باعتبار لوازمِها التي هي النواهي المتعلقةُ بأضداد ما تعلقت هي به، فإن الأمرَ بالشيء مستلزمٌ للنهي عن ضده بل هو عينُه عند البعض، كأن الأوامرَ ذُكرت وقُصد لوازمُها، فإن عطفَ الأوامرِ على النواهي الواقعةِ بعد أن المفسر لتلاوة المحرماتِ ـ مع القطع بأن المأمورَ به لا يكون محرماً ـ دليلٌ واضحٌ على أن التحريمَ راجعٌ إلى الأضداد على الوجه المذكور فكأنه قيل: أتلُ ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تُسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أُخرج مُخرجَ الأمرِ بالإحسان إليهما بـين النهيَـين المكتنِفين له للمبالغة في إيجاب مراعاةِ حقوقِهما فإن مجرَّدَ تركِ الإساءةِ إليهما غيرُ كافٍ في قضاء حقوقِهما، ولذلك عُقّب به النهيُ عن الإشراك الذي هو أعظمُ المحرماتِ وأكبرُ الكبائرِ هٰهنا في سائر المواقعِ، وقيل: (أن) ناصبةٌ ومحلُّها النصبُ بعليكم على أنه للإغراء، وقيل: النصبُ على البدلية مما حرم وقيل: من عائدها المحذوفِ على أن لا زائدة، وقيل: الجرُّ بتقدير اللام وقيل: الرفع بتقدير المتلُوِّ أن لا تشركوا، أو المحرَّمُ أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل: والذي عليه التعويلُ هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسَّرِ على صورة النهي مبالغةً في بـيان التحريمِ وقوله تعالى: { شَيْئاً } نُصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك أو شيئاً من الأشياء { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ } أي وأحسِنوا بهما { إِحْسَـٰناً } وقد مرَّ تحقيقه { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ } تكليفٌ متعلق بحقوق الأولادِ عقّب به التكليفَ المتعلقَ بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد { مّنْ إمْلَـٰقٍ } أي من أجل فقرٍ كما في قوله تعالى: { { خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ } [الإسراء، الآية 31] وقيل: هذا في الفقر الناجزِ وذا في المتوقَّع وقوله تعالى: { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل النهي وإبطالِ سببـيةِ ما اتخذوه سبباً لمباشرة المنهيِّ عنه وضمانٌ منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقرَ بناءً على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوٰحِشَ } كقوله تعالى: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [الإسراء، الآية 32]، إلا أنه جيء هٰهنا بصيغة الجمعِ قصداً إلى النهي عن أنواعها ولذلك أُبدل عنها قولُه تعالى: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي ما يُفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأَبُ أراذلِهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدانِ كما هو عادةُ أشرافِهم. وتعليقُ النهي بقُربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانَها داعٍ إلى مباشرتها، وتوسيطُ النهي عنها بـين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن القتلِ مطلقاً كما وقع في سورة بني إسرائيلَ باعتبار أنها مع كونها في نفسها جنايةً عظيمةً في حكم قتلِ الأولادِ فإن أولادَ الزنا في حكم الأموات وقد "قال صلى الله عليه وسلم في حق العزلِ: إن ذاك وأدٌ خفيٌّ" ومن هٰهنا تبـين أن حملَ الفواحشِ على الكبائر مطلقاً وتفسير ما ظهر منها وما بطن بما فُسِّر به ظاهِرُ الإثمِ وباطنُه فيما سلف من قبـيل الفصلِ بـين الشجر ولِحائِه.

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ } أي حرم قتلَها بأن عصمَها بالإسلام أو بالعهد فيخرُج منها الحربـيُّ وقوله تعالى: { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } استثناءٌ مفرّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حالَ ملابستِكم بالحق الذي هو أمرُ الشرعِ بقتلها، وذلك بالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، وقتلِ النفسِ المعصومةِ، أو من أعمِّ الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحقِّ وهو ما ذكر، أو من أعمِّ المصادر أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً كائناً بالحق وهو القتلُ بأحد الأمور المذكورة { ذٰلِكُمْ } إشارةٌ إلى ما ذكر من التكاليف الخمسةِ، وما في ذلك من معنى البُعد للإيذان بعلوّ طبقاتِها بـين التكاليف الشرعية، وهو مبتدأ وقوله تعالى: { وَصَّـٰكُمْ بِهِ } أي أمركم به ربكم أمراً مؤكداً خبرُه، والجملة استئنافٌ جيء به تجديداً للعهد وتأكيداً لإيجاب المحافظةِ على ما كُلِّفوه ولما كانت الأمورُ المنهيُّ عنها مما تقضي بديهةُ العقول بقُبحها فُصِّلت الآيةُ الكريمة بقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تستعملون عقولَكم التي تعقِل نفوسَكم وتحبِسُها عن مباشرة القبائحِ المذكورة.