خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ
٥٩
وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٦٠
-الأنعام

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } بـيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبـية به تعالى من حيثُ العلمُ إثرَ بـيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ، والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبـيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح، وإما جمعُ مفتِح بكسرها، وهو المفتاح، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ (مفاتيحُ الغيب) فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى، أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو يُتوصَّلُ به إليها، وقولُه عز وجل: { لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله، وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ، والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله، ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه، بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرةً وعلماً فيُنزلُه حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالِه، وقولُه تعالى: { وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } بـيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بـيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبـيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ، أي يعلم ما فيهما من الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها، وقولُه تعالى: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } بـيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بـيانِ تعلقِه بذواتها، فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال، كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها، وقولُه تعالى: { وَلاَ حَبَّةٍ } عطفٌ على (ورقةٍ) وقولُه تعالى: { فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلأَرْضِ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدةٌ لكمال نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها، وكذا قولُه تعالى: { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى: { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ [من الكل] على أن الكتابَ المُبِـينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ، وقرىء الأخيران بالرفع عطفاً على محلِّ (من ورقة) وقيل: رفعُهما بالابتداء والخبرُ (إلا في كتاب مبـين) وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ، وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في (ولا حبةٌ) أيضاً.

{ وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ } أي يُنيمُكم فيه على استعارة التوفِّي من الإماتة للإنامة لما بـين الموتِ والنومِ من المشاركة في زوال الإحساس والتميـيز، وأصله قبضُ الشيء بتمامه { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } أي ما كَسَبتم فيه والمرادُ بالليل والنهار الجنسُ المتحققُ في كل فردٍ من أفرادهما، إذْ بالتوفي والبعثِ الموجودَين فيها يتحققُ قضاءُ الأجلِ المسمَّى المترتبِ عليها لا في بعضِها، والمرادُ بعلمه تعالى ذلك علمُه قبل الجَرْحِ كما يلوحُ به تقديمُ ذكره على البعث أي يعلم ما تجرَحون بالنهار، وصيغةُ الماضي للدلالة على التحقّق، وتخصيصُ التوفي بالليل والجَرْحِ بالنهار مع تحقّق كلَ منهما فيما خُصَّ بالآخر للجَرْي على سَنن العادة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي يوقظكم في النهار، عطفٌ على يتوفاكم، وتوسيطُ قوله تعالى: { وَيَعْلَمَ } الخ، بـينهما لبـيان ما في بعثهم من عظيمِ الإحسانِ إليهم بالتنبـيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبةً لإبقائهم على التوفّي بل لإهلاكهم بالمرة يُفيض عليهم الحياة ويُمهلُهم كما ينبىء عنه كلمةُ التراخي، كأنه قيل: هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهار مع علمه بما ستجرَحون فيها { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مّسَمًّى } معيَّنٌ لكل فردٍ فردٌ بحيث لا يكاد يتخطىٰ أحدٌ ما عُيِّن له طرفةَ عينٍ { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي رجوعُكم بالموت لا إلى غيره أصلاً { ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلك الليالي والأيامِ، وقيل: الخطابُ مخصوصٌ بالكفرة، والمعنى أنكم مُلقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار، وأنه تعالى مطّلعٌ على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعمارَكم من النوم بالليل وكسْبِ الآثامِ بالنهار ليُقضىٰ الأجلُ الذي سماه وضَرَبه لبعث الموتى وجزائِهم على أعمالهم. وفيه ما لا يخفى من التكلّف والإخلالِ، لإفضائه إلى كون البعث معلَّلاً بقضاء الأجلِ المضروب له.